ظهر مفهوم اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ للقطاع الخاص منذ حوالي القرن من الزمان، وتطوّر المفهوم على مدار العقود السابقة، وأضحى من المفاهيم الرئيسة في الاتجاهات الإدارية الحديثة، حيث لم يَعُد يقتصر تقييم الشركات فقط على أساس الربحية، أو المركز المالي، وإنما ظهرت مفاهيم حديثة تقيّم الشركات على أساس مساهمتها الاجتماعية، ودورها في إنفاذ التنمية المجتمعية، وخلق تكامُلاً ثُلاثيّ الأبعاد ما بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والبيئة معاً، حيث تُسهم ديناميات اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ في تعزيز دور القطاع الخاص، والشركات في عمليات التنمية المستدامة، والشراكة مع القطاع العام والأهلي، وتوجد تعريفات عدّة لمفهوم اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ للشركات، ولكنها متشابهة من حيث أن الشركات مسؤولة تجاه أصحاب المصلحة فيها، من مساهمين، وعملاء، وموردين، وعمال، وموظفين، إضافة الى مسؤوليتها تجاه المجتمع والبيئة. وينطوي هذا المفهوم على التزام الشركات ليس فقط بتحقيق الأرباح، بل أيضاً بتحمّل المسؤولية الاجتماعية، وأضحى معيار اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ في الدول المتقدمة، عنصر حاكم في الترويج والتسويق المجتمعي للشركات.
وقد تباينت دول العالم في اعتماد وتنظيم اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ للشركات، فمنها من ألزم الشركات بتخصيص نسبة محددة من أرباحها للمسؤولية الاجتماعية بقوة القانون، ومنها من أنشأ صندوقاً خاصاً للمسؤولية الاجتماعية وبشكل مُمَأسس، ومنها من حدد مجالات الإنفاق الخاص بالمسؤولية الاجتماعية، ومنها من ترك الشركات تتنافس في تقديم مسؤولياتها الاجتماعية، ومنحها امتيازات نظير مساهماتها الاجتماعية، كما برزت خلال السنوات الأخيرة توجهات جديدة، انبثقت من فكرة اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ، بغرض خلق تكامل ما بين نشاط الشركات التجارية والآثار الاجتماعية لنشاطها، من خلال آليات استثمارية مبتكرة مثل سندات الأثر الاجتماعي (Social Impact Bonds)، وهي عبارة عن آلية تمويل حديثة تشارك بموجبها الحكومة أو مؤسسات عامة باتفاقيات مع مقدمي خدمات اجتماعية، ومستثمرين من القطاع الخاص، وكذلك ظهر مفهوم الشركات الاجتماعية، والتي تسعى لتقديم خدمات اجتماعية للمجتمع.
وفي فلسطين، توجد شركات تمارس اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ، وتُظهر البيانات المالية لتلك الشركات وتقاريرها المختلفة، مساهمات جيدة في هذا المجال، ولكن يشوب هذا الأمر اختلال كبير، يتمثل في عدم المأسسة للمسؤولية الاجتماعية، وعدم وجود إطار تشريعي ناظم لها، رغم صدور قرار بقانون "جديد" بخصوص الشركات في العام 2021، وتشتت جهود الشركات التي تقدّم مساهمات اجتماعية، وعدم شمول كل الشركات في تحمّل اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ، إضافة إلى عدم وجود خطة وطنية، أو استراتيجية خاصة بالمسؤولية الاجتماعية في فلسطين، مما يبعثر من الجهود القائمة، ويُبهِت أثرها، ولا يُنفِذ مبادئ الحوكمة فيها، إضافة إلى تدني أثرها الاجتماعي في تحقيق التنمية، كونها تركّز على الجانب الإغاثي، والمساعدات الطارئة، وعلى شكل هبّات، ولا تتحرى بالضرورة العدالة الاجتماعية، أو الوصول إلى كافة الفئات المستحقة، عدا عن "بداءة" فكرة توزيع الطرود والكوبونات، والمساعدات الاغاثية، وعدم تناغمه مع الكرامة الإنسانية.
ومع وقع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع عزة، وحصار وتقطيع أوصال الضفة الغربية، وارتفاع مستويات البطالة والفقر إلى نسب مرتفعة، وانكماش الاقتصاد المحلي، وشُح السيولة في السوق، بالموازاة مع فقدان مئات آلاف فرص العمل، والأزمة المالية الخانقة التي تعصف بالسلطة الفلسطينية، الامر الذي أثر سلباً على التزاماتها تجاه موظفيها، وكذلك على الموردين من القطاع الخاص، وعلى الفئات الفقيرة والمهمشة المستفيدة من الخدمات العامّة، مما يستوجب مأسسة اَلْمَسْؤُولِيَّة اَلِاجْتِمَاعِيَّةِ، من خلال تشريع متكامل، يحمل صيغة فيها نوع من الالزام، خاصّة وأن الشركات في فلسطين تحظى بتسهيلات ضريبية، وشرائح متدنية في نظام ضريبة الدخل مقارنة بالدول الأخرى، كما توجد ضرورة لإطلاق استراتيجية وطنية للمسؤولية الاجتماعية، وانشاء صندوق موحّد تودع فيه الشركات مساهماتها الاجتماعية، يُدار من خلال هيئة مستقلة، من الكفاءات المتخصصة، وضمن معايير الحوكمة، والتزام كامل بمبادئ الشفافية، وقيم النزاهة والمساءلة، ويتم تخصيص أموال الصندوق لبنود محددة تبعا لأولويات المجتمع الفلسطيني، تحمل سمة التنمية المستدامة، وليس المساعدات الاغاثية، مثل مشاريع التمكين الاقتصادي للفئات الفقيرة والمهمشة والشباب، ودعم تعليم الطلبة المحتاجين، إن كان للتعليم الاكاديمي أو المهني، وضمن أسس ومعايير واضحة، ونظام معتمد للصندوق.
ومن هنّا، أوجه دعوة للحكومة الفلسطينية الجديدة، وتحديداً إلى وزارة التنمية الاجتماعية كفائدة للعمل الاجتماعي في فلسطين، والتي تعمل في ظروفٍ لا تُحسد عليها، إلى ضرورة العمل العاجل على مأسسة المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص، من خلال المقترحات أعلاه، كونها رافعة للتنمية المجتمعية، ومورداً لتوفير إيرادات وسيولة نقدية تساهم في التمكين الاقتصادي للفئات الفقيرة والمهمشة، خاصة مع شُح إمكانيات الحكومة، والحالة الاقتصادية الصعبة للشعب الفلسطيني، وبشكل يضمن الوصول لجميع المستحقين، من خلال منظومة مُحَوكَمَة.