ما بين العام 2012 وحصول دولة فلسطين حينها على صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة والتي جرى التصويت عليها أواخر نوفمبير تشرين ثاني، وبين الإعلان عن الحصول على العضوية الكاملة، وإحالة الأمر لمجلس الأمن لاتخاذ الإجراءات لرفع عضوية دولة فلسطين في كافة هيئات المؤسسة الدولية بعد أن حصد التصويت الأخير 143 صوتا مقابل تسعة أصوات للولايات المتحدة وحلفائها الذين عارضوا ذلك التصويت وهو الموقف الطبيعي المعتاد للولايات المتحدة - ما بين 2012 و2024 حصلت متغيرات وأحدث وتطورات هائلة وجهود سياسية وتحركات أيضا بذلت لا داعي، وليس ثمة داع لاستعراضها بالمناقشة الآن لكن على المسرح الدولي والإقليمي ظلت محاولات إزاحة أو إبعاد القضية الفلسطينية عن الطاولة متواصلة بل شهدت محاولات إنهاء هذه القضية والإجهاز على الحقوق الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف هي الشغل الشاغل لدوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب من صفقة القرن وتكريس خطة الضم والتهويد إلى محاولات تأبيد الانقسام وضرب وحدة الأراضي الفلسطينية الجغرافية والسياسية أو استمرار إضعاف وتقويض دور السلطة ومنظمة التحرير وإيصالها للحد الأدنى فيما بقي الثابت الأساس في السياسة الإسرائيلية ينصب في العمل بموجب توجه يقوم على أن اتفاقية أوسلو لم تعد قائمة، ووضع الخطط والبرامج للشروع الفعلي بضم المناطق التي كانت تسمى مناطق "ج" في الأغوار والقدس والريف الفلسطيني، والإيعاز للمستوطنين بتنفيذ ذلك على الأرض بدعم رسمي من الحكومة، وتكريس سياسة الاستيطان الاستعماري بهدف الحيلولة دون إمكانية وجود دولة فلسطينية مستقلة وهو جوهر وصلب خطة اليمين الإسرائيلي الذي اعتلى سدة الحكم في إسرائيل، ولم يخف برامجه المعلنة بعد الانتخابات 2022 حيث تصنف الحكومة الحالية بأنها الأكثر تطرفا ويمينية في إسرائيل.
دون الخوض في تفاصيل التطورات المتلاحقة سياسيا بقيت الحالة الفلسطينية تجاه هذه التطورات تراوح في ذات المكان الانتظار والمراهنة على تغيير ما في الأفق السياسي، والرهان على ذات الحلول والوصفات السابقة أي أنها ذات ردود فعل تتسم بالغضب أحيانا أو الرفض والوصول لاتخاذ قرارات عديدة أحيانا أخرى كما جرى في اجتماع المجلس الوطني أو المركزي دون تنفيذ تلك القرارات أو التراجع عنها، ومواصلة محاولات فتح قنوات سياسية وفي الوقت نفسه العمل سياسيا ضمن المتاح للحفاظ على "حل الدولتين" والبقاء في التفكير في إطار هذا المشروع دون إفساح المجال للتفكير ببرنامج مختلف أو خارج الصندوق بما في ذلك طرح القرار 181 قرار التقسيم على سبيل المثال، والتمترس خلف رأي البقاء في ذات الحل وتسويق أسباب لها علاقة بالشرعية الدولية أو أن هذا الحل هو الحل المتاح المقبول دوليا ويتم الاعتراف بدولة فلسطين على أساسه ولكنه أيضا الحل الذي يشهد حالة من التلاشي والتآكل المستمر، ويتم إنهاء إمكانية تحقيقه على الأرض يوميا بفعل الاستيطان، ويرى العالم التدمير الحاصل على إمكانية الوصول للحل أمام الجميع من يؤيد فكرة حل الدولتين ويرى فيه خشبة الخلاص للصراع في الشرق الأوسط حيث في إطار هذا الحل من المقرر أن يحصل الشعب الفلسطيني على دولته المستقلة وحقوقه المشروعة، وتحصل "دولة إسرائيل" على الأمن باعتبارها جزء من المنطقة ويتنادى المحيط العربي لتطبيع علاقاته معها معلنا بدء حقبة جديدة تسودها حالة من الاستقرار، والتطور الاقتصادي والسلام المنشود بديلا للحروب وعدم الاستقرار وغياب الأمن وسفك الدماء.
من بين عديد المحطات التي سارت فيها الكثير من المياه في جداول الحياة الشرق أوسطية وإحدى أهمها ربما التي حصلت مؤخرا بطبيعة الحال نقطة التحول في السابع من تشرين أول أكتوبر الماضي وهي ليست وليدة لحظة وليست قتالا من أجل القتال، وما جرى يمثل بوابة هامة لإعادة القضية الفلسطينية للواجهة من جديد بالرغم من كل الويلات والدمار الذي ما زال الشعب الفلسطيني تحديدا في قطاع غزة يتجرعه مخلفا ماسي إنسانية يصعب وصفها أو تصديقها من التجويع والحصار والقصف اليومي للشهر السابع على التوالي وهذا يربط الأمور مرة أخرى حول نتيجة التصويت الأخير في الجمعية العامة على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في المؤسسة الأممية، وأخذ العبرة مما جرى لاستلهام ووضع نقاط القوة التي هي اليوم في أيدينا وأبرزها أن طول الفترة الماضية لم تنجح دولة الاحتلال في بناء تحالف دولي يوسم نضال الشعب الفلسطيني بالإرهاب كما خططت رغم التشجيع والتأييد الذي جرى في بداية العدوان يشهد اليوم حالة تفكك لم تبق من دول التحالف إلا الولايات المتحدة وبعض دول الغرب الاستعماري ولكن هذا لا يعني أن كل تلك الدول أصبحت مؤيدة بالكامل لفلسطين فيما تراجعت العديد من الدول على الانضمام وأعلنت مواقف أكثر عقلانية، المسألة الأخرى هي بالمقابل هناك اصطفاف عالمي واسع سياسيا وشعبيا بما في ذلك داخل الجامعات على امتداد العالم يمكن أن يشكل نقطة قوة بالغة الأهمية للعمل من أجل إنهاء الاحتلال بالضغط على الحكومات لوقف اتفاقيات التبادل التجاري بما فيها بيع وتوريد الأسلحة لإسرائيل كخطوات ممكنة التحقيق ثم الضغط لقطع العلاقات مع دولة الاحتلال بسبب جرائمها المتواصلة في فلسطين، وإنهاء هذه الاتفاقيات معها إذ لم تعد أسطوانة معاداة السامية التي تسوقها دولة الاحتلال تلقى ذات الوقع لدى الغالبية العظمى من الجمهور الذي يرى بأم عينيه ما يجرى من إبادة جماعية، ومن الأهمية في كل ذلك الإشارة إلى بقاء وتماسك الموقف الفلسطيني السياسي المعلن، وتسريع وتيرة التحركات السياسية لإفشال المسعى الهادف لعزل القضية الفلسطينية أو محاولات تهميشها واستمرار العمل بكل الوسائل لفضح ما يجري من جرائم أمام كل المنابر الدولية بما فيها الاستفادة من المناخ الناشيء بعد رفع جنوب أفريقيا الدعوى القضائية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وانضمام عدد من الدول اليها والخشية في إسرائيل اليوم أن يتم إصدار مذكرات توقيف بحق أركان حرب الاحتلال بتهمة الإبادة الجماعية، وارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين العزل في قطاع غزة والضفة الغربية.
هذه القضايا مع الكثير من التطورات الاخرى تمثل اطارا للتحرك، والعمل لما هو مطلوب فلسطينيا، وبشكل خاص بعد التصويت الاممي في الجمعية العامة الذي خاضت بعثة فلسطين في الامم المتحدة جهودا صعبة وشاقة في الحقيقة لحشد التاييد من الدول للتصويت لصالح القرار والذي جاء ردا قويا دوليا مقابل استمرار جرائم القتل اليومي، واعلان عالمي بان العالم لا زال ينحاز للانسانية رفضا لبشاعة المشاهد المروعة التي تعج بها الشاشات والاخبار في انحاء العالم امام ما يجري في بلادنا علينا النظر لمسألة التصويت التي جرت على انهاء عملية نضالية متراكمة، وساحة نضال سياسي للمظلومية الفلسطينية مقابل رواية الاخر يجب ان يتبعها برامج وتوجهات للعمل والتحرك العالمي، وعدم الركون للاحتفاء بالانجاز كما يجري كل مرة، وتضيع معه فرصة العمل لما بعد، وهي الاهم فالعضوية الكاملة تتطلب حشد المزيد من التأييد للاعتراف بدولة فلسطين والعمل بين الدول التي امتنعت عن التصويت ومنها دول وازنة، والانتقال من الرمزية الفخرية للاعتراف الفعلي فمن رفع العلم في ساحة الامم المتحدة العام 2015 الى جانب اعلام الدول الاخرى وما مثله من رمزية ودلالة بالمعنى السياسي، والاعتزاز الوطني لشعب تحت الاحتلال الا ان الخطوة بقيت بالمعنى السياسي لم تنطوي على اي تغيير عملي داخل اروقة الامم المتحدة فبقي التمثيل على حاله لبعثة منظمة التحرير التي اشير اليها باسم فلسطين .
اليوم بات المطلوب خطوات اكثر احدى اهمها هو الانطلاق من ذات القاعدة التي يعمل بموجبها الاحتلال ان اتفاقية اوسلو لم تعد قائمة من جهتنا ايضا، وقد تجاوزها الزمن فعلا وبالتالي من حق الشعب الفلسطيني اتخاذ القرارات الكفيلة بتجسيد سيادته الوطنية وبسط هذه السيادة على ارض الواقع بقوة قرارات الشرعية الدولية على جميع الاراضي الفلسطينية التي احتلت العام 1967 بما فيها القدس المحتلة عاصمة دولة فلسطين وبكل ما يعني ذلك من مواجهة مع الاحتلال الذي يريد تطبيق سيادته بالمقابل على اكثر من 62% من الضفة الغربية وفصل قطاع غزة، وهذا قرار ليس بالسهل يتطلب توفير كل المناخات من اجل تطبيقه والانتقال بموازاة ذلك الى طلب رسمي بترسيم الحدود الفلسطينية من كل من مصر، والاردن بكل ما للخطوة ايضا من معاني سيادية وعلى المعابر والحدود وحركة المرور تجاوزا لكل الاتفاقيات المبرمة مع الاحتلال والتي لم تعد قائمة .
اليوم مطلوب العمل لدعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد في غضون شهرين ليس فقط على اثر التصويت وانما لمناقشة كل الوضع الراهن باعتبار المجلس صاحب الولاية الشرعية والقانونية لوضع اعلان الاستقلال في الجزائر تشرين ثاني من العام 1988 موضع التطبيق العملي المباشر، ومطالبة الامم المتحدة ممارسة دورها والعمل فورا على انهاء الاحتلال عن اراضي دولة فلسطين المحتلة بكل ما في القرار من تبعات قانونية وسياسية لاعتبار فلسطين دولة كاملة العضوية تحت الاحتلال، وانفاذ القرارات التي من شأنها رفع الاحتلال عنها مثلا التدرج من الدولة العضو المراقب، ورفع العلم في ساحة الامم المتحدة، والوصول الى الدولة العضو هي خطوات ذات اهمية لكنها منقوصة لا تغير حقيقة الواقع القائم على الارض ما لم يعقبها اجراءات من شأنها الشروع في ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في تقرير مصيره على ارض وطنه، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة حيث ظل العالم ينادى لسنوات وعقود طويلة بعدم مشروعية الاستيطان ومعها ايضا استمرت اسرائيل في البناء الاستعماري لانه لم يعقب ادانة الاستيطان او الدعوات لوقفه اي خطوات ملموسة تجبر قوة الاحتلال على وقف تشيد المستوطنات التي تقع في ارض محتلة بموجب القانون الدولي، ولم يترقي الجهد الدولي لإرادة حقيقية للعمل على ازالة الاستيطان بل جرى الاكتفاء بالتوصيف بانه عقبة على طريق تحقيق السلام .
اليوم الظروف الدولية والمناخ المتاح يمثل فرصة سانحة قد لا تتوفر مجددا لاحداث اختراق جدي يعيد القضية الى نصابها الصحيح اذا ما توحدت ادوات العمل الفلسطيني والخطاب السياسي، ووضعت الركائز التي يمكن العمل من خلالها على المستوى الداخلي الفلسطيني لاعادة بناء نظام سياسي بمشاركة الجميع بالدعوة لحوار وطني داخلي بمشاركة جميع الفصائل والقوى الفلسطينية والشخصيات، والمجتمع المدني بما يوصل لعقد جلسة خاصة طارئة للمجلس الوطني، واعلان برنامج وطني متوافق عليه عنوانه انهاء الاحتلال والاستقلال لدولة فلسطين اليوم قبل الغد والاتفاق على انتخابات عامة في فترة زمنية يتوافق عليها الجميع، وحشد كل الطاقات للعمل بدل تبديد الفرصة المتوفرة، واعتماد برنامج للمقاومة الشعبية، ودعم حالة الصمود الوطني الى جانب ذلك عكس توجهات للعمل دوليا على جبهة تضامن دولي واسعة النطاق لانهاء الاحتلال ومحاسبة قادته وصولا لاحقاق الحقوق الوطنية المشروعة التي هي محل اجماع ولا تنازل عنها .