ما صدر عن القمة العربية في البحرين هو الحدّ الأقصى من العمل الدبلوماسي المنضبط في ظلّ عالم مرتبك شديد السيولة، لا ثقة لدى الدول العربية فيه بأيّ من القوى الحليفة تقليدياً في الغرب.
بعد 33 قمّة اعتيادية وطارئة، وبعد 76 عاماً من الصراع العربي – الإسرائيلي ومرور ما يزيد على 42 عاماً على اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، يصبح السلام والتطبيع والشرق الأوسط الجديد الذي بشّروا به بعيدة المنال. بل الانزلاق للحرب والفوضى بات أقرب من أيّ وقت مضى.
هنا يبرز السؤال: هل كان العرب قد وصلوا في بيان قمّتهم الأخير إلى الممكن والمتاح عبر وضع ملفّ العصمة كلّها أمام مؤتمر دولي برعاية أممية تحضره كلّ الأطراف يبدأ في الانعقاد برعاية بحرينية من الجانب العربي ورعاية إسبانية من الجانب الدولي، وينعقد بشكل مؤسّسي، بمعنى أنّه مؤتمر دائم الانعقاد له إدارة رئيسية ويضمّ ورش عمل نوعيّة تتولّى كلّ الملفّات؟
الغرض من هذا المؤتمر الدولي أن ينعقد ولا ينفضّ إلا بعد أن ينهي ثلاث مسائل رئيسية:
– مهمّة السلام.
– شكل السلام.
– ضمانات هذا السلام.
أربعة مخاوف عظمى لدى القادة العرب حاولوا القفز عنها وعدم الجمود أمامها على الرغم من إدراكهم لحجم خطورتها:
1- عدم الثقة بالمعلومات الأميركية التي ترد من مراسلات ومقابلات واتصالات كبار المسؤولين الأميركيين الذين يكرّرون أنّ الأزمة الحالية مع إسرائيل سوف تنفرج قريباً عند رحيل نتنياهو وانفراط عقد حكومته اليمينية المتطرّفة، وأنّ البيت الأبيض يدرك تماماً أنّ نتنياهو يراهن على شراء الوقت والبقاء أطول فترة في السلطة.
من هنا القرار العربي في عدّة عواصم خليجية وفي القاهرة وعمّان بعدم بناء سياسات على هذا الافتراض، إذ وضع المسؤولون في حساباتهم استمرار نتنياهو.
2- التخوّف العربي من واشنطن، سواء فاز بايدن أو ترامب، على أساس أنّ انحياز أيّ إدارة أميركية تاريخياً وتقليدياً سيكون إلى مصالح وأمن إسرائيل بصرف النظر عن سياسة الحكومة الإسرائيلية التي في السلطة.
3- أصبح راسخاً لدى ما مجموعه ثماني دول عربية رئيسية أنّه يجب عدم ارتهان مصالح هذه الدول في الاستقرار والتنمية والأمن القومي بمزاج من يحكم في تل أبيب أو رام الله أو غزة.
4- أيّ حلّ شامل لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة يجب أن يتمّ من خلال مظلّة دولية تشمل القوى الكبرى النافذة ومن خلال الدول المؤثّرة في الأزمات الإقليمية (إسرائيل، تركيا، إيران)، ويجب أن تتمّ بلورة هذه التسوية النهائية بعد استقرار المصالح الدولية في العالم والاتّفاق على مناطق النفوذ الإقليمية.
3 سنوات لاكتمال التسوية..
يؤكّد مسؤول خليجي أنّ التسوية المقبلة سوف تستلزم وقتاً طويلاً ومهارات تفاوضية غير تقليدية وتنازلات متبادلة من الجميع وفواتير باهظة. توقّع المسؤول الخليجي أن تبدأ الاتصالات الجادّة لهذه التسوية الدولية الإقليمية في نهايات هذا الصيف، وقد تستمرّ ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات.
ما يتمّ تداوله بين البيت الأبيض والاتّحاد الأوروبي وبعض العواصم العربية، أنّنا بحاجة إلى ما يسمّى one stop shop بين جميع القوى النافذة في العالم والمنطقة، من أجل عمل “تسوية تقاسم مصالح ونفوذ” ترضي الجميع دون أن تصبح المنطقة تحت تهديد “ابتزاز القوى والصراعات”.
إشكاليات كبرى تهدّد مثل هذه التصوّرات، أهمّها العقلية السياسية للائتلاف الحاكم في إسرائيل الذي يريد الحصول على كلّ شيء من دون دفع أيّ ثمن من أيّ نوع لأيّ شيء.
مصر تستعدّ للأسوأ
يؤكّد مصدر مطّلع أنّ عدّة عواصم عربية شكت للرئيس جو بايدن من أنّ منطق نتنياهو في الفوز الكامل والهزيمة الصفريّة للجميع، غير منطقي وغير مقبول وغير ممكن، وأنّ ما يحدث على ساحة العمليات العسكرية وردود الفعل العالمية تجاه ما يحصل غير مؤهّل لفرض هذا المنهج المغلوط المبنيّ على أوهام العظمة.
بالمقابل حاول مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في اتصال هاتفي مع رئيس الاستخبارات المصرية اللواء عباس كامل يوم الثلاثاء الماضي أن يخفّف من مخاطر التحرّكات الإسرائيلية العسكرية في منطقة رفح ومحور فيلادلفيا، لكنّه سمع من اللواء عباس كلاماً حازماً وشديد اللهجة حول الاستياء المصري من عملية رفح واعتبار القاهرة هذا السلوك تهديداً صريحاً لنصّ معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية الموقّعة في آذار 1979 بين البلدين بضمانة وتوقيع الرئيس الأميركي في حينه جيمي كارتر.
تقضي هذه المعاهدة في بنودها الخمسة الأولى بإنهاء حالة الحرب برّاً وبحراً وجوّاً بين البلدين وإيقاف التصرّفات العدائية أو الأعمال المباشرة أو غير المباشرة التي تهدّد العلاقات بينهما.
سمع سوليفان رفض مصر القاطع للعرض الإسرائيلي الأخير بتقاسم السيطرة والإدارة في معبر رفح الحدودي واقتصار نشاط مصر على تمرير شاحنات الطاقة.
جاء الردّ المصري قاطعاً: الاتفاق الخاصّ بالمعابر يعطي مصر وحدها حقّ الإدارة الكاملة للمعبر ولكلّ من يعبره من الجانب المصري.
لا يُستبعد أن تحاول إسرائيل إعادة تدوير فكرة دخول قوات عربية برعاية دولية للإشراف وضمان أمن قطاع غزة بحيث تكون هذه القوات الضامنة للمنطقة العازلة عن قطاع غزة والمانعة لأيّ اعتداء على مستوطنات غلاف القطاع.
جاء الردّ العربي من عدّة عواصم متطابقاً في هذه المسألة: لن تلعب أيّ قوات عربية دور شرطي الحراسة للاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي لا يوجد فيه أيّ مسار جادّ أو تعهّد حقيقي لمشروع الدولتين.
هذا ما قيل، وهذا ما سوف يسمعه مرّة أخرى جيك سوليفان الذي يبدأ زيارته للمنطقة في هذه الساعات. وهي زيارة تأتي بعد خيبات الأمل لكلّ من أنتوني بلينكن ووليام بيريز خلال جولاتهما المكّوكية لتحقيق أيّ تسوية.
الجهد الأميركي لتخفيف التصعيد يتحطّم على صخرة سياسات نتنياهو بل تزداد عمليات التصعيد والتوتّر الإقليمي. كما لا يخفى على إدارة البيت الأبيض وأجهزتها الأمنية المعلومات والصور الموثّقة بالأقمار الصناعية لعمليات التعبئة العسكرية المصرية في المنطقتين “ألف” و”باء” في سيناء المتاخمتين للحدود المشتركة مع إسرائيل وفلسطين.
تؤكّد هذه الصور دخول أعداد غير مسبوقة من القوات المصرية مدعّمة بالدبّابات والمدرّعات والمدفعية وقوات من المشاة ورجال العمليات الخاصة والطائرات المروحية المقاتلة.
لم يخفَ على واشنطن وتل أبيب قيام الجيش المصري بإعلان حالة التعبئة السابقة لعمليات القتال مع استدعاء قوات الاحتياط من قوات المشاة والصاعقة والمدفعية.