لم يكن إعلان سموتريتش عما حققته حكومة الاحتلال من خطوات ملموسة لضم الضفة الغربية مفاجئاً، فقد كانت هذه الخطة التي عرفت ب" الحسم" مضمون برنامج الائتلاف الحكومي منذ تشكيلها. بل، أكثر من ذلك، فالمعارضة التي صوتت ضد الحكومة، واعتبر بعض أطرافها أن مشاركة الثنائي سموتريتش وبن جڤير "سبة" لإسرائيل، كونهما سبق واتهما بالارهاب من قبل دولة إسرائيل ذاتها، إلا أنها لم تعلن اعتراضاً جدياً على مضمون هذه الخطة، واقتصرت معارضتها على ما عرف بخطة الإصلاح القضائي، التي فجرت صراعهم الداخلي على هوية الدولة ومحاولات"فرض الشريعة التوراتية" على طابعها. فالمظاهرات التي استمرت حتى السابع من أكتوبر ضد "الإصلاح القضائي"، كان قادة المعارضة يرفضون مجرد الحديث عن مسؤولية تمادي الاستيطان والاحتلال على "ديمقراطية إسرائيل". ولم يعترضوا على أقوال سموتريتش في باريس بأن الشعب الفلسطيني مخترع، ولا على الخارطة التي أبرزها نتانياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة فقط قبل أقل من شهر من انفجار السابع من أكتوبر .
والسؤال ماذا تنتظر قيادة السلطة بعد كل ذلك كي تقتنع أن البرنامج الفعلي لحكومة الاحتلال، وبالإضافة لاستمرار حرب الابادة والتهجير في قطاع غزة هو الضم المتدرج والمتسارع حتى لو كان دون إعلان، وذلك بهدف القضاء على قدرة المقاومة في قطاع غزة وبعض أنحاء الضفة الغربية، تمهيداً لحسم الصراع وتصفية الحقوق والقضية الفلسطينية برمتها.
لقد نأت القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بنفسها عما يجري من حرب إبادة في قطاع غزة تحت مسميات مختلفة، ، و حملت المقاومة المسؤولية عن تدمير غزة و سقوط عشرات الآلاف من الشهداء، وضعفهم من الجرحى، وبما يشي بتبرئة المجرمين الذين باتوا يُطاردون في المحاكم الدولية كمجرمي حرب، و ضم إسرائيل"واحة الديمقراطية" المزعومة إلى قوائم العار في الأمم المتحدة على قتل الآطفال التي بات سمة حرب الابادة الدائرة في غزة.
لو وضعنا جانباً، لوهلة، لغرض المساءلة الواجبة، ما يجري في غزة واعتبار السابع من أكتوبر هو الذريعة لحكومة الاحتلال عن حرب الابادة . فهل توافق هذه القيادة أن نتانياهو الذي طالما حاول تعميق الانقسام بين غزة والضفة كان يستهدف تمزيق الكيانية الوطنية لمنع الفلسطينيين من تقرير مصيرهم وإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة؟ وهل نما لعلمهم أنه يحاول الغاء حقيقة الشعب الفلسطيني وتحويله إلى جماعات طارئة وفي أحسن الأحوال إلى قضية إنسانية يمكن حلها "بالسلام الاقتصادي" لرفع مستوى معيشتهم ؟ وهل تقر هذه القيادة أن هذه السياسة الاسرائيلية تجاه مستقبل القطاع كانت تستهدف الاستفراد بالضفة لحسم الصراع فيها وعليها، وفقاً لمؤشرات الواقع الاستيطاني وهجمات المستوطنين الارهابية على القرى والبلدات ؟ و هل تدرك هذه القيادة أنها تتحمل المسؤولية الأساسية عن الفشل في انهاء الانقسام دون اسقاط مسؤولية حركة حماس ؟ والسؤال الآخر هل الحرب على غزة اقتصرت على ضرب حماس وإسقاط حكمها، أم أن هذه الحرب كانت وما زالت تستهدف الكل الفلسطيني؟
صحيح أن جزءاً من الصراع الداخلي كان في مضمونه على الشرعية، والسؤال الواجب إشهاره : أين هي شرعية القيادة في ظل صمتها على ما يجري من إبادة في غزة ؟ وعدم تحريكها ساكنا عما يجري من تسارع في الضم والحسم وجرائم القتل اليومي في مختلف مدن الضفة الغربية، ومن تهويد يتعمق يومياً في القدس المحتلة؟ فالشرعية التي كرستها منظمة التحرير الفلسطينية بكفاح طويل ومرير قدم خلاله شعبنا الفلسطيني مئات آلاف الشهداء منذ انطلاقة فتح ومختلف فصائل الثورة، والتفاف شعبنا حولها بأعظم انتفاضة في التاريخ المعاصر، هذه الشرعية ليست مفتوحة الصلاحية، سيما عندما فشل برنامجها في مسار ما يُسمى بالتسوية، بما أضاع شرعيتها الثورية، دون أن تكترث للشرعية الدستورية و لا لشرعية الإنجاز . وهل هناك، وبالاستناد إلى تجربة منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها، من خيار غير شرعية الوحدة والوفاق في ظل غياب أو تغييب الشرعية الثورية أو الدستورية أي الانتخابات حيث يقول الشعب كلمته الفاصلة كحق دستوري أصيل لأي شعب ؟ فما بالنا بشعب لم تتوقف تضحياته بأغلى ما يملك منذ ما يزيد على قرن ؟
منذ بداية حرب الابادة، وفي سياق حرب الضم بالإخضاع، باتت القضية الطافية على سطح القيادة المتنفذة تتلخص في كيفية الحفاظ على سلطتها التي يعلن نتانياهو جهاراً نهاراً نيته لتقويض قدرتها، ليس بهدف إزاحتها، بل لمزيد من إخضاعها، في وقت يرفض بصورة قاطعة استعادة دورها في قطاع غزة لأن ذلك قد يعني بطريقة أو أخرى وحدة الكيانية الفلسطينية حتى لو كانت هشه أو غير قادرة، وبما قد يؤدي يوماً لحتمية تغيير مضمونها كمركز اداري وسياسي موحد نحو انتزاع حق تقرير المصير، وهذا ما يرفض نتانياهو الإقرار به ،ويتباهى بأنه الأقدر على انجاز هكذا مهمة استراتيجية في المشروع الصهيوني الذي يُنصب نفسه العرّاب الأكثر قدرة على تحقيقه. ومع ذلك ما زالت القيادة المتنفذة تعتبر أن الخطر على "شرعيتها"،وعلى سلطتها المتآكلةِ القدرة والصلاحية بفعل اضمحلال قاعدتها الاجتماعية هو من قوى المقاومة، ومن الحراكات الوطنية الحريصة على انقاذها من ورطة التمادي في سياسة استرضاء العدو، والتكيف اللامتناهي مع مطالبه التي لا تنتهي سوى بالتصفية .
مرت محاولات انهاء الانقسام بمسيرة متعثرة مليئة بالوعود، ولكن أيضاً بالفشل المتكرر وسيل مؤذي من الاتهامات المتبادلة. هناك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا المجال. ولكن ما لا يمكن النقاش فيه أنه وبعد حرب الإبادة ضد شعبنا في غزة، تبلور موقف يحظي باجماع وطني وشعبي، بما شكل فرصة، ربما فريدة، لتحقيق الوحدة. إلا أن تلك الفرصة لم تلتقط تحت مبررات واهية أبرزها احتمال فرض الحصار على الحالة الفلسطينية بمجملها، الأمر الذي لم يعد ينطلي على أحد.
أمام هذه الأسئلة الكبرى والحقائق المؤلمة، وفي ظل المخاطر المحدقة، هل ما زال هناك متسع لاستمرار الرهان على الوعود الأمريكية غير القادرة على تنفيذ قرارها في مجلس الأمن لوقف المقتلة والابادة التي يتعرض لها شعبنا، والغير قادرة على مجرد تحرير أموال شعبنا وتركها في يد الفاشي سموتريتش كي يقايض حقوقنا المالية بالصمت على مخططات الضم والتصفية؟ الأمر الذي يعيدنا مرة أخرى إلى سؤال مفهوم القيادة، وفلسفة الحكم والسلطة ، فهل هي مجرد احتكار المال والسلطة الأمنية، أم أنها تُكتسب بمدى الالتفاف الشعبي حول برنامجها الوطني، سيما لشعب تحت الاحتلال .
كما أنه وأمام ذلك المسار الانفرادي المدمر على مدار ما يزيد عن ثلاثة عقود ، هل تعتقد حماس أن هذا يؤهلها للانفراد بالسيطرة على التمثيل بدواعي رفض الرئيس الاستجابة لمتطلبات الوحدة، الأمر الذي قد يدخلنا مجدداً في مسارات التيه التي تحيكها إسرائيل بتواطؤ حلفائها لابقاء القضية الفلسطينية حبيسة الصراع الداخلي مجدداً وربما الانزلاق لصراع دموي داخلي ؟
أخيراً، هل تعتقد القيادة المتنفذة أن هناك طريقاً آخر لإنقاذ المصير الوطني غير الانصياع لارادة الوحدة في اطار مؤسسات الوطنية الجامعة، وتوفير ولو بصيص من الأمل لشعب قدم كل التضحيات،وبات من حقه، بل واجبه التدخل لصونها، وتصويب مسار كفاحه الوطني، ومنع التفريط بهذه التضحيات والإنجازات، التي بدأت تؤتي بتغيرات كبرى في أوساط واسعة من الرأي العام الدولي؟ هذا واجب الجميع وفي مقدمتهم كل الوطنيين الفلسطينيين، وبما يمليه من ضرورة وحدة كل حراكاتهم ومبادراتهم في بوتقة موحدة تصون التعددية في مواجهة الإقصاء لضمان النجاح في تحقيق التغيير الديمقراطي بالوسائل السلمية .