بالرغم من أنّ الحرب العسكرية المباشرة، وما تتضمّنه من إبادة، تجري في قطاع غزّة، وبالرغم من أنّ الرهان على انفجار الأوضاع في الضفة الغربية والوصول إلى المواجهة المباشرة لم يتحقّق، لكن ذلك لا يعني أنّ الأوضاع في الضفّة الغربية ليست على حافَة الهاوية أو أنّها هادئة وساكنة، بل من الواضح أنّ الطائرات الإسرائيلية تقصف في غزّة ورفح، وتقتل الفلسطينيين هناك وتشرّدهم وتجوّعهم، لكنّ أعينهم هي على الضفّة الغربية التي تمثّل استراتيجياً ورمزياً قيمة أكبر بكثير، ليس فقط لليمين الصهيوني والديني هناك، بل حتّى للاتجاه الغالب من القيادات العسكرية والأمنية والسياسية التي لا تملك تصوّراً استراتيجياً للمستقبل سوى تفريغ القدس والضفّة من السكّان، أو في الأقلّ استمرار التضييق عليهم وبناء المستوطنات، والمضي في خطّة الترانسفير في المدى الطويل.
قبل أيام، كشفت تسريبات لوزير مالية الكيان المُتطرّف، بتسلئيل سموتريتش عن خطط إسرائيلية سرّية لجعل كلّ المستوطنات شرعية، ولضمّ الضفّة الغربية إلى إسرائيل، وهو سيناريو لا يَشكّ، إلّا من في عينيه رمد، في أنّه قادم ومتسارع على قدم وساق، وأخذ منحىً جديداً وخطيراً منذ أحداث 7 أكتوبر (2023)، ويمثّل اليوم المثال الأبرز على عدم إمكانية إقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967.
هل خطر التهجير قائم ومحتمل من الضفّة الغربية باتّجاه الأردن أم لا؟ وماذا نفعل لحماية المصالح الوطنية الأردنية والأمن الوطني في مواجهة مثل هذا السيناريو إن حدث؟ وكيف نُعرّف السياسة الأردنية تجاه الملفّ الفلسطيني بناءً على هذه الأخطار والتهديدات؟ هل يكتفي الأردن بدعم السلطة الفلسطينية أم تكون لديه مقاربة تداخلية أكثر وأعمق؟ أم يفتح خطوطاً مع حركة حماس؟ وماذا عن تهريب الأسلحة عبر الحدود الأردنية نحو الضفّة الغربية؟ وماذا عن محور الممانعة والتصريحات الإيرانية المعادية للأردن؟ وكيف يمكن أن يتغافل الأردن عن مسألة الحدود الشمالية، وما تشكّله مليشيات إيران من خطر على الأمن الوطني الأردني شمالاً، من خلال شبكات تهريب المخدّرات أو خدمة النفوذ الإيراني؟ وكيف يعيد مطبخ القرار في عمّان صياغة التهديدات والتحدّيات على الحدود الشمالية والغربية من خلال معادلة واحدة متكاملة، تتضمّن مُحدّدات واضحة للأمن الاستراتيجي الأردني؟ أم يفصل بين المعادلتَين بما يتناسب مع حيثيات كلّ منهما؟
هذه هي الأسئلة الجوهرية التي تُطرح علناً وفي الدوائر المُغلقة في عمّان. وبالضرورة لسنا أمام اتّجاه واحد في الإجابة عنها، لا في ما يتعلّق بالنُّخَب السياسية عموماً، ولا حتّى في أروقة الدولة ونُخَبها السياسية أو المُقرّبين منهم، فهنالك اتّجاه محافظ تقليدي يضغط باتجاه عدم انخراط الأردن أكثر في أيّ مستوى من المستويات في الملفّ الفلسطيني، خاصّة ملفّ الضفّة الغربية، وإعادة تعريف مفهوم الوصاية الأردنية على القدس والمُقدّسات، بما لا يتجاوز الجانب الخدماتي الرعائي، حتّى لا يحمل الأردن فوق ما يحتمل، ويتجنّب الصدام المباشر مع المؤسّسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وهنالك اتجاه يدفع نحو الانتقال إلى دعم حركة حماس، والتخلّي عن فكرة دعم السلطة الفلسطينية الهزيلة والضعيفة، أو في الحدّ الأدنى، "تنويع الخيارات الاستراتيجية الأردنية" في ما يتعلّق بالضفّة الغربية، وهنالك اتّجاه ثالث يقف بين الاتجاهين السابقين، ويرى ضرروة إعادة صوغ الأسئلة وطرح النقاشات بصورة عقلانية واقعية، وليس بناءً على أحكام وفرضيات مسبقة غير مُختبَرة في ما يتعلّق بالمصالح الأردنية الاستراتيجية في الملفّ الفلسطيني عموماً.
بالضرورة، من الخطأ استعجال حسم مثل هذا النقاش أو الإجابة عنه بفرضيات جاهزة، فالمسألة في حاجة إلى حوارات مُغلقة مُعمّقة في دوائر القرار في عمّان، وبين النُّخَب السياسية، والوصول إلى تصوّر استراتيجي عميق بشأن الاحتمالات المُستقبلية والخيارات الأردنية، وصولاً إلى خطّة عمل أردنية قادرة على فكّ شيفرة البيئة الإقليمية المُعقّدة التي يعيش فيها الأردن، واجتراح سياسات وبرنامج عمل يعكس القيم الوطنية الأردنية (التي يُشكّل البعد القومي - الإسلامي جزءاً أساسياً فيها)، وحماية المصالح الوطنية الأردنية واعتبارات الأمن الوطني، وإدراك، قبل هذا وبعده، أهمّية قراءة (وتحليل) المُتغيّرات الدولية والإقليمية المُختلفة، وانعكاساتها في ملفّ العلاقة الأردنية - الفلسطينية.
تأسيساً على هذه المُقدّمة، من الضرورة الوقوف عند ثوابت الموقف الأردني والمصالح الوطنية الاستراتيجية الأردنية في ما يتعلّق بالملفّ الفلسطيني أولاً، وبالوضع في الضفّة الغربية والقدس ثانياً. الاعتبار الأول المفترض أن يُحسم قبل مناقشة أيّ موضوع آخر يتمثّل في أنّ سيناريو عودة الحكم الهاشمي إلى الضفّة الغربية وإحياء هذه العلاقة، التي انتهت عملياً بمؤتمر الرباط في 1974، ورسمياً بقرار فكّ الارتباط في 1988، أمر غير وارد، ولا يخدم المصالح الوطنية الأردنية والمصالح الوطنية الفلسطينية. ومن المعروف أنّ الالتباس في موضوع "وحدة الضفّتَين" قد جرّ على الطرفَين مشكلات عديدة كبيرة، ووتّر العلاقة فترة طويلة بين الأردن ومنظّمة التحرير الفلسطينية، ولم تكن هنالك قوى سياسية فلسطينية نافذة موافقة على قرار الوحدة في 1950، بل اعتبرته جزءاً من المؤامرة على الهوية الوطنية الفلسطينية. ومن ثم، أيّ حديث أميركي وإسرائيلي، أو حتّى عربي، عن عودة الأردن بأيّ شكل إلى الضفّة الغربية هو سيناريو مرفوض بوضوح من نظام الحكم، خاصّة الملك، أو حتّى من الرأي العام الأردني، الذي يرى في هذا إتماماً لمخطّط وعد بلفور بتفريغ فلسطين من الفلسطينيين، وإلحاقهم بشرق الأردن، وصولاً إلى "الوطن البديل"، بل "النظام البديل"، فهذا هاجسٌ حقيقي واضح وبيّن لا يمكن تجاوزه أو تخطّيه.
وللتذكير فقط، رفض الملك الحسين، كما يُؤكّد مارتن أنديك، في كتابه "سيّد اللعبة: هنري كيسنجر وفن الديبلوماسية في الشرق الأوسط" (ترجمة ياسر محمد صديق، دار نهضة مصر، القاهرة، 2023)، في 1974 الخطّة التي عرضها الإسرائيليون بحكم أردني على التجمّعات السكّانية، وليس على الأرض، وهو الأمر الذي وافق عليه الرئيس الراحل ياسر عرفات، فمثل هذا السيناريو مرفوضٌ تاريخياً أردنياً. وحتّى وقت قريب، قال سياسيون أميركيون إنّ الرئيس الأميركي السابق (وربّما اللاحق) دونالد ترامب مارس ضغوطاً على الملك عبد الله الثاني من أجل القبول بدور أردني في الضفّة الغربية، وقد رفضه الملك، بل أكثر من ذلك، يقول أحد المقرّبين من الملك إنّه "إذا كان الملك الحسين، لأسباب تاريخية، كان يرى إقامة الدولة الفلسطينية خطراً على الأردن، فإنّ الملك عبد الله الثاني يرى العكس تماماً".
الاعتبار الثاني، أنّه رغم ما ورد سابقاً، فإنّ ابتعاد الأردن أو تحجيم دوره في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية والدفاع عن المصالح الوطنية الفلسطينية أمر مرفوض أيضاً، وغير واقعي، ولا منطقي، ويضرّ بالمصالح الوطنية الأردنية لكمّ كبير من الاعتبارات والأسباب، في مُقدّمتها أنّ هنالك علاقة جدلية تاريخية ترابطية بين الضفّة الغربية والقدس والأردن، وأنّ مُخرجات ما يحدث في فلسطين ستنعكس تماماً على الأردن (كما حدث في اللجوء الفلسطيني في 1948 و1967)، ولأنّ هنالك اعتبارات ديمغرافية داخلية مترابطة بالملفّ الفلسطيني. وفوق هذا وذاك، تمثّل القضية الفلسطينية ورقة استراتيجية مُهمّة في المنطقة، وعلى الأردن أن يتعامل مع ذلك، إذا أراد أن يضع هذه الورقة في مصلحته أو أن تكون مصدر تهديد وتخويف له فقط. أمّا نظرية التقوقع والابتعاد فهي غير مُجدية في الحدّ الأدنى، فضلاً عن أنّها تؤدّي إلى الإضرار الشديد بالأمن الوطني الأردني والمصالح الاستراتيجية الأردنية. من الضروري أن يُعاد تعريف المجال الحيوي للأمن والمصالح الاستراتيجية الأردنية لتكون الضفّة الغربية جزءاً من هذه الاعتبارات، وألّا نتخيّل أنّ هنالك إمكانية لانفصال كامل أردني عما يحدث في الضفّة، فهنالك ما تزال ملفّات القدس واللاجئين والحدود والمياه، تشبّك المصالح الأردنية بالفلسطينية بقوّة.
يتمثل الاعتبار الثالث في أنّ القلق تجاه خطر "الوطن البديل" أو "الترانسفير" لا يقتصر على مُخرجات الحرب الحالية، أو في المدى القصير، ومن ثم، يصبح النقاش خارج السياقين، التاريخي والموضوعي، الصحيحين له، فمن الواضح أنّ "الخيار الأردني" لحلّ مشكلة الديمغرافيا الفلسطينية، وما ينتج عنه من آثار كبيرة في الحالة الأردنية، هو الخيار الاستراتيجي الإسرائيلي، عاجلاً أم آجلاً. ومن ثم، يصبح من العبث والملهاة مناقشة فيما إذا كان سيقبل الفلسطينيون في الضفّة الغربية بالترحيل أم سيصمدون، ما دام الحديث عن المدى القصير، بينما يشدّ الكيان الإسرائيلي الحبل حول عنقَي الضفّة والقدس بصورة متتالية، ويخنق فرص الحياة الممكنة والطبيعية، ويستثمر أيّ أزمة أو مشكلة لتعزيز هذا الحصار، وصولاً إلى اللحظة المناسبة، ويكفي أن نرصد السياسات الإسرائيلية في عملية تهويد القدس أو الاستمرار في العملية الاستيطانية، وغيرها من سياسات متكاملة مدروسة استراتيجية، تسير جميعها نحو هدفٍ واحد. من الضروري استراتيجياً، أن يكون لدى الأردن والفلسطينيين تصوّرات واضحة ومعمّقة حول الخطط والسيناريوهات الإسرائيلية في ما يتعلّق بمستقبلَي الضفّة والقدس، والعمل لبناء مقاربة مضادّة للمقاربة الصهيونية بما يحمي الوجود العربي الفلسطيني في القدس والضفّة الغربية، ليس من زاوية أمنية أو عسكرية فقط، بل الأكثر أهمّية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، لأنّ هذه العوامل مشتركة هي مقوّمات الصمود أو الانهيار. في لقاءات مُغلقة، عقدها معهد السياسة والمجتمع مع نُخَب قيادية فلسطينية في الضفة الغربية والقدس، كان من الواضح أنّ هنالك تحدّيات ومصادر تهديد كبيرة وخطيرة مُستجدّة تندرج ضمن مخطّط إسرائيلي طويل الأمد، لعملية التهويد والسيطرة على الأرض وطرد السكّان، فهنالك التحوّل في السلوك الاستيطاني نحو العدائية والهجوم وتهديد الأمن اليومي، وهنالك الأزمة الاقتصادية الكبيرة، التي يعيشها جميع سكّان الضفّة، وهنالك سياسات تهويد القدس المُستمرّة، وغيرها من تحدّيات، تتطلب تصوّرات واقعية وعملية لمواجهتها.
الاعتبار الرابع، أنّ الرهان على التسوية السلمية وإقامة الدولة الفلسطينية لم يعد قائماً، وفي الحقيقة لم يكن قائماً في أيّ وقت مضى. ولو عدنا إلى كتاب "سيد اللعبة" لأحد أبرز الدبلوماسيين الأميركيين، مارتن أنديك، لوجدنا بوضوح أنّ هنالك قناعة لدى المسؤولين الأميركيين مُبكّرة، منذ احتلال إسرائيلي لأراضي الضفّة والقدس، أنّ إسرائيل لن تنسحب من الضفّة، وأنّها فقط تريد التخلّص من التجمّعات الفلسطينية السكّانية، ويروي المستشار السابق للملك الحسين، ووزير الإعلام الأردني الأسبق، عدنان أبو عودة، أنّه عندما التقى وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، في المرحلة الأولى من عملية السلام في مدريد 1991، سأله إن كانت الولايات المتحدة ستقبل بالدولة الفلسطينية، فكان جواب بيكر: "أكثر من حكم ذاتي وأقلّ من دولة"، وهذا العرض لم يعد قائماً، مع تغيّر موازين القوى المُرعب، الذي حدث في النظام العربي وقواعد الدعم الإقليمية للفلسطينيين، وآخر ما تحصّل عليه الفلسطينيون، وأفضل ما يمكن أن يُقدّم لهم، كان من خلال ما عرضه في 2014 وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ولاحقاً ترامب، فيما يُعرف بصفقة السلام، وكلّها لا تصل إلى تلبية الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
ما العمل؟ وكيف نواجه التحدّيات؟... وفقاً للاعتبارات السابقة، هذا هو السؤال المفروض أن يطرح أردنياً وفلسطينياً، قبل القفز إلى الأحكام والمواقف المتصلّبة هنا أو هناك.