الثلاثاء  03 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غزة في "الزمن النكبوي": زمن الإبادة المستمر

2024-07-02 09:06:58 AM
غزة في
رولا سرحان

عند النظر إلى خارطة غزة الجوية من خلال "جوجل إيرث"، سيكون بالإمكان تقليب الكرة الأرضية وتحريكها، الاقتراب والابتعاد عن المكان كثيرا، أو المضي في تفاصيله الصغيرة الدقيقة. وسيبدو قطاع غزة صغيرا جدا إذا ما قورن بخارطة فلسطين التاريخية، أو بقياسه بخرائط جغرافية أخرى، ومقارنتها بعالم يبدو بعيدا كثيرا عن غزة رغم انشغاله بها، لكنه ينظر إلى غزة ويراها في لحظة وقوع الحدث غير أنه لا يريد أن يراها، فلا يعكس الحقيقة على خرائطه التقنية، فلا يرى دمار غزة عبر "جوجل إيرث"، إذ يتوقف الزمن عند ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فلا يرى المراقب حجم الدمار والإبادة، بل يرى شوارع غزة المعبدة، وأرصفتها وبناياتها المتلاصقة المتراصة في مكان ما زال فيه المكان قائما على حاله. وكأن زمن الإبادة، زمن لا يمكن التقاطه، زمن خارج الزمن لا تلتقطه خرائط الأقمار الصناعية، فهو زمن خارج التقدم والحداثة، ينفي فيه مرتكب الإبادة عن نفسه هذه الجريمة ويساعده في هذا النفي شريكه في الجريمة: التقدم الإنساني المزعوم، الذي يحافظ على ثبات الزمن بالصورة التي يريد لها أن تكون ووفق شروطه.  لكن، وعند إمعان النظر في الخارطة سيُلاحظ الرائي كم أن المكان مضغوط، ليس فقط كحقيقة فيزيائية وإحصائية في متناول الجميع، وإنما كاستعارة تحيل إلى الأصل المشبه به الماثل في فلسطين منذ نكبتها، والتي يحيل زمنها التاريخي المفصلي عام 1948 إلى زمن غزة الآن التي تضغط الزمن والمكان وتفككهما في متوالية تظل تستحضر الماضي في الحاضر نفيا إلى الأمام، ليكون سؤال الفلسطيني الأهم متعلقا دائما بعلاقته بزمنه ومكانه: لماذا يُحبس الفلسطيني في زمن الماضي في مكان اليوم؟

وليس هذا السؤال سؤالا فلسطينيا حصرا، بل هو سؤال عربي بالأساس تفتق عنه السؤال الفلسطيني، ليكون سؤالا حاضرا يراد له أن ينسلخ عن بُعده العربي. لكن العدوان الطاحن على غزة، والذي يفضي إلى إبادة الفلسطيني، يفرض مناقشته بحصريته على الفلسطيني نظرا لهول واقعة السابع من أكتوبر، والتي شكلت وتشكلت من مكونات تجمع التناقضات فيما بينها، وتجعل التمعن في المفاهيم وانزياحاتها على الأرض لها أولوية ثقافية واجتماعية وسياسية، من قبيل معاني الهزيمة/ الانتصار، التذكر/ النسيان، الموالاة/ المقاومة، الرسمي/الشعبي، وكلها تحيل إلى معنى الفلسطيني وفلسطينيته، كما معنى العربي وعروبته، وهي في الوقت ذاته ترتبط بالعلاقة مع الزمن الذي يتشكل منه التاريخ؛ فهو بذلك سؤال عن فاعلية الفلسطيني/ العربي في التاريخ، أي سؤال عن تحقيق وجوده ومن ثم تحققه. لذلك، عندما يكون العدوان-الإبادة هي ممارسة مستمرة لنفي الفلسطيني خارج التاريخ بجعل نكبته الأولى مفتوحة دوما على نكبات متجددة فإن فعل الاستمرارية النكبوية يعني تلقائيا استمرارية فاعلية الفلسطيني، واستمرارية وجوده، ولولا ذلك، لانتهت النكبة، وصارت مجرد تاريخ حدثي، محدد الزمن بداية ونهاية، ومتعين المكان مساحة وحدودا.

جاءت معركة "طوفان الأقصى"، والعدوان-الإبادة الذي تلاها، لتلخص معنى النكبة، ولتضغطه في مكان وزمن محددين، يُفهم من خلاله سياق الصراع الفلسطيني-الصهيوني تاريخيا، ويدفع المراقب، والمتضامن، وغير العارف بتاريخ الصراع إلى البحث والتقصي والمعرفة، وهذا هو الاختراق الأهم الذي حققه الطوفان، أنه عرّى كل المعرفة القبلية المتأسسة والممأسسة عن فلسطين وتاريخها، وفضح التاريخ المزيف الذي دوِّن عنها، فطرح سؤال المعرفة من جديد: كيف يمكن أن نفهم ما يحدث في هذه البقعة الصغيرة من الأرض؟ وكيف يمكن أن نعود بالتاريخ إلى الوراء ونعيد قراءته من جديد في ضوء زمن الإبادة اليوم؟ والسؤال الأهم: لماذا يمشي الزمن هنا إلى الوراء؟

لم تكن النكبة كسرا لعلاقة الفلسطيني بالمكان فقط، ولكنها كانت، وبشكل أفظع، كسرا لعلاقته بالزمن أيضا، إذ سيصبح الماضي هو الزمن الحاضر إلى الأبد، الزمن الوحيد المتحرك، والزمن القابل للعبور إلى الأمام في حركة ميتافيزيقة تخالف قوانين الزمن لأنه سيصبح غير قابل للانقسام والمرور أو التتابع أو التغير. وليكون الحاضر والمستقبل إما زمنين مؤجلين، أو زمنين بحكم الأداة أو الوسيلة التي ستكون مهمتها الوحيدة حمل الماضي والإيحاء بأن هنالك سيرورة ما للزمن، بينما لا وجود له إلا في سياقه المضغوط على شكل ماض مستمر. وكأن للماضي أبدية حضور مطلقة واستمرارية لا يمكن تجاوزها بالزمن التاريخي العابر، فيكون الزمن الفلسطيني قابلا للتعريف، وفقط، بنكبته الماضية المستمرة فيكون زمنه هو هذا "الزمن النكبوي"، وبما يعنيه من تمثل وحيد للزمن بشكله المسموم، فلا يكون من معنى لحركته لأنه ثابت يلغي مفهوم الزمن بشكله الحسابي كوقت قابل للقياس بأدوات الحاضر التقنية، وسيكون متغيرا بفعل تفاصيل الإبادة واستمراريتها، ليقوم الزمن على تراكبية شاذة: ثاتب- مستمر (الزمن النكبوي)/ متحرك -لا يتغير (زمن الإبادة).

وبفعل ذلك سيكون الفلسطيني حاضرا بين الماضي والماضي المستمر في بقعة "البين-بين" لا هي في الماضي ولا في الحاضر، وقد عبر غسان كنفاني عن ذلك في مسرحيته الرائعة "الباب"، ببليغ العبارة قائلا: "أما هنا، فليس ثمة وقت"؛ وعند تساؤله عن معنى الـ"هنا"، سيصبح المكان كالأعراف غير محدد سواء أكان "جنة أو نارا". وهي خاصية المكان الفلسطيني الذي فيه الوطن جنة أشعل فيها المستعمر نار توحشه وعنفه، فتوقفت فيه الحياة اليومية الاعتيادية وتحولت إلى حياة قائمة على روتين الموت، الذي هو التحقق الوحيد لوجود الفلسطيني داخل فكر مستعمره على قاعدة أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت. إنه المكان الذي يحمل الموت كمسار وحيد يقفز عن الحياة، فلا يمر بمساره الطبيعي ولادة، حياة، موت، وإنما وفقط هي ولادة تؤدي إلى الموت. هكذا يصبح كل مولود فلسطيني هدفا للقتل، وكلما حاول الفلسطيني تغيير حتمية هذا المسار تحول إلى عدو، إذ يصبح التعامل مع موت الفلسطيني كمعطى طبيعي وليس كمحصلة لعنف المستعمر القائم على المحو والسلب والإحلال، ليكون الفلسطيني عندما يقاوم رافضا موته مشكلة ذات طبيعة سياسية محولا نفسه إلى عدو "فالسياسي هو الذي له عدو"، وفق تعريف شميدت للسياسي، والفلسطيني هو العدو الذي يجب أن يموت كي يتم "تطهير" المكان كما قال نتنياهو في واحد من خطاباته في بداية عمليات الإبادة، بل واعتبار الإبادة "عملية تنظيف" كما وصفها مستشار الأمن القومي لنتنياهو تساحي هنيغبي في جلسات المؤتمر السنوي الصهيوني الذي عقده معهد السياسات والاستراتيجية في هيرتسيليا قبل أيام.

ذلك هو اللاهوت الأسطوري الوهمي الذي ينتمي إليه الفكر الصهيوني، وتلك هي قاعدة إيقاف الزمن، أما وظيفة المكان فهي أن  يحمل الزمن العبء غير المكتمل. هي علاقة فيزيائية تؤكد أنه لا يمكن الحديث عن الزمن والمكان بشكل منفصل، وبيان ذلك أن الزمن يملك وجودا اعتباريا والمكان هو الذي يجعل هذا الوجود متحققا فهو الذي يجعل الزمن بعدا للأشياء وللحوادث، فدون المكان لا يكون للزمن وجود، كما عبر عن ذلك ألبرت آينشتاين، العالم الذي بدأ صهيونيا ثم انتهى إلى مناهض لاستعمار فلسطين ورفض إضفاء الشرعية على الدولة الصهيونية عندما طالبه بذلك جماعة من المدافعين عن حق الدولة الصهيونية في الوجود في أعقاب مجزرة دير ياسين. جاء رد آينشتاين في حينه على شكل برقية مقتضبة جدا بالقول، "عندما تحل بنا كارثة حقيقية ونهائية في فلسطين، سيكون المسؤول الأول عنها هم البريطانيون والمسؤول الثاني هي المنظمات الإرهابية التي بنيت من داخل صفوفنا. أنا لست على استعداد لرؤية أي شخص مرتبط بهؤلاء الأشخاص المخادعين والمجرمين". تلك هي النتيجة المباشرة التي يمكن لأي عقل منطقي وعلمي أن يتوصل إليها، فالتحكم بمسار حكاية التاريخ فرضت على الفلسطيني المقولة الصهيونية الأولى النافية له: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، والتي تأسس عليها لاحقا وعد بلفور. فالمكان كان ضروريا لتحطيم القاعدة العلمية لفهم الزمن، المكان المفرغ من الشعب هو المكان المفرغ من الزمن، وبالتالي من التاريخ، وبمحصلة أن لا تاريخ للمكان. وهو منطق العنف الذي بني عليه الفكر الصهيوني والذي يؤمن به نتنياهو الذي يستكمل اليوم زمن الإبادة في غزة باعتباره معطى لاهوتيا، فهنا يسكن العماليق أبناء عيسو، أو الحيوانات البشرية، التي أمر الرب بمحاربتهم والقضاء عليهم. يجب أن يكون المكان خاليا، فلا تراه عين نتنياهو إلا خاليا، وهو ما يستدعي استحضار قول نتنياهو إثر انتخابه مباشرة عام 1996، عندما قام بتمزيق اتفاقات السلام أمام المستوطنين أثناء زيارته إلى مستوطنة أريئيل، وهو ينظر إلى التلال الصخرية المحيطة بالمستعمرة قائلا: "أنظروا لهذه التلال [..] إنها أرض جرداء، هل تعلمون أنه لو لم نأت نحن (اليهود) إلى هنا لظلت هذه الأرض جرداء ألفي سنة".

وما بين التجريد والجرداء في لغة الفلسطيني ما يفهمه، كما يفهمه أصحاب العقول والضمائر الحية، من انتفاء الرجوع إلى الواقع الحسي بل يقوم على الوهم والإيهام الصهيوني بأن المكان أجرد لكن دون فعل التجريد العنيف الذي يحصل اليوم على شكل إبادة تُجرف فيها جثامين الفلسطينيين ويدفنون في مقابر جماعية في باحات مستشفيات غزة، وتقصف المدارس والجامعات والبيوت ودور العبادة، ويجوّع الأطفال حتى الموت، وتلد النساء فوق الركام، ويتم اصطياد الفلسطيني الباحث عن نجاة لمرة واحدة كفريسة يختاره قناص بعين واحدة. وهو ما لا يختلف عما حدث بشكل مستمر منذ عام 1948، من الزمن النكبوي الذي يجد له امتداده الحركي في زمن الإبادة المستمر ليكون الفلسطيني أمام معادلة مضادة لاكتمال الهوية التي تقوم على أساس ثلاثية الناس، الأرض، الحكاية، في مقابل ثلاثية الناس، الأرض والزمن. سيكون الزمن عدو الفلسطيني الذي لا يُتيح حركة سوية لسيولة هويته وتطورها، فجزء ما من هذا الهوية يظل غير مكتمل لعدم اكتمال حكايته عن الماضي وما دام الزمن مضغوطا في زمن نكبوي متعين اليوم في زمن الإبادة المستمر ولا يترك مسافة يتحول فيها الزمن إلى تاريخ أو حكاية. غير أن الفلسطيني الذي يحاول استنهاض نفسه واستنهاض فاعليته في التاريخ يعي أن دوره يقوم على خلق زمن يتحدى هذا الزمن المعطوب، فيجده في "زمن الاشتباك المستمر"، الذي مقام نقاشه مقام آخر، سيكون في إحياء الذكرى الثانية والخمسين لرحيل غسان كنفاني.

للاطلاع على مقالة (غسان كنفاني: "زمن الاشتباك المستمر" يتحدى "زمن الإبادة المستمر") يمكنك الضغط هنا