تعيش فرنسا على وقع زلزال سياسي، بعد تصدّرِ اليمين المتطرّف نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الأحد الماضي. وإذا حدث وكرّست الجولةُ الثانيةُ، الأحد المقبل، هذا التصدّر، فسيشكل ذلك محطّة مفصلية في السياسة الفرنسية، قد تُنذر بنهاية الجمهورية الخامسة التي أرسى أسسها الرئيس الأسبق شارل ديغول سنة 1958.
شكّل قيامُ الجمهورية الخامسة قطيعة مع الجمهورية الرابعة (1946-1958) التي تمتّعت فيها المؤسّسة التشريعية بصلاحيات أوسع مقارنةً بمؤسستيْ الرئاسة والحكومة. ولعب ديغول دوراً أساسياً في هندسة البناء المؤسّسي والدستوري الجديد، لا سيّما فيما يتعلق بإعادة الاعتبار لرئيس الجمهورية، الذي غدا، بما منحه له دستور 1958 من صلاحيات واسعة، حجرَ الزاوية في النظام السياسي والدستوري.
لا يمتلك الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون، الكاريزما، ولا شرعية الكفاح ضد الاحتلال (النازي)، ولا المؤهلات السياسية التي كان يمتلكها ديغول، ومكّنته، قبل 66 سنة، في إعادة التوازن للسياسة الفرنسية. يجد ماكرون نفسه في وضع لا يُحسَد عليه، بعد أن تبدّدت، أو تكاد، ثنائيةُ ''اليمين واليسار'' التي طبعت المشهد السياسي منذ عقود. وقد ساهم هو نفسُه في ذلك، بسبب افتقاده مشروعاً سياسياً متوازنا. بدا ذلك واضحا في خسارته رهانَ حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات مبكرة، بعد أن حلَّ تحالفُه ثالثاً في الجولة الأولى من هذه الانتخابات بنسبة تناهز 20% من الأصوات. يضاف إلى ذلك توسُّله، في السياسة الداخلية، بمقاربة اقتصادية أكثر محاباة لدوائر المال والأعمال التي أوصلته إلى سُدّة الرئاسة.
في السياق ذاته، يعكس ما صرّح به ماكرون، الأحد الماضي، بشأن ''ضرورة إقامة تحالف ديمقراطي وجمهوري خلال الجولة الثانية من الاقتراع'' حالةً من التخبّط السياسي وسط الطبقة السياسية التي يبدو أنها غير مستعدّة، بعد، لقبول هذا التحوّل في بنية السياسة الفرنسية، بعد حصول ''التجمع الوطني'' على 33% من الأصوات، في وقتٍ لم ينلْ التحالف الرئاسي أكثر من 22%. لا تزال معظم مكوّنات هذه الطبقة تراهن على الناخبين الفرنسيين، في الجولة الثانية من الانتخابات، لقطع الطريق على اليمين المتطرّف حتى لا يصل إلى السلطة.
لا تقتصر حالة التخبّط هاته على الطبقة السياسية، فقد بدأت تظهر بوادر انقسام مجتمعي عميق، قد يكون له ما بعدَه، خاصة في الحواضر والمدن الكبرى، التي يعيش فيها السكّان المنحدرون من أصول مهاجرة. وهو ما يعني أن فرنسا، دولةً ونخباً ومجتمعاً، أمام تحدٍّ مجتمعيٍّ كبير.
يضعُ حسمُ اليمين المتطرّف الفرنسي الجولةَ الثانية للانتخابات فرنسا أمام سيناريوهين: أولاً، قبول الرئيس ماكرون، ومعه الطبقة السياسية، بفوز ''التجمّع الوطني''، والاستعداد للجيل الثاني مما يُعرف في الأدبيات السياسية الفرنسية بـ ''التعايش السياسي'' (Cohabitation politique)، إذ سيكون على ماكرون أن يتعايش مع زعيم ''التجمّع الوطني''، جوردان بارديلا، الذي قد يصبح أول رئيس حكومة ينتمي لليمين المتطرّف. هذا السيناريو، في حالة تحقّقه، سيقلّص هامش الحركة أمام ماكرون، على اعتبار أن تجارب التعايش التي شهدتها فرنسا منذ 1986 (الأولى بين الرئيس، الاشتراكي، فرُنسوا ميتران، والوزير الأول، اليميني المحافظ، جاك شيراك 1986-1988) كانت محكومة بتوافق، يتولى من خلاله الرئيسُ مهام السياسة الخارجية، في حين يتولّى الوزير الأول إدارة الشؤون الداخلية. أما السيناريو الثاني، ويبدو مستبعداً، فأن تفرز الجولة الثانيةُ خريطة برلمانية مبلقنة، لا تتيح بناء تحالفات تحوز الأغلبية. وهو ما قد يجعل الرئيس يلجأ إلى المادة 16 من الدستور التي تخوّله ''اتخاذ تدابير، في حالة تعرّض مؤسّسات الجمهورية أو استقلال الدولة ووحدة أراضيها (..) لخطر داهم وجسيم، أو توقُّفِ السلطة الدستورية العامة عن حسن سير عملها المنتظم''. بيد أن ذلك يصطدم بالخيار الديمقراطي الذي يُفترض أن الدولة الفرنسية تتبنّاه شكلاً ومضموناً.
يلخّص هذان السيناريوهان مأزق الجمهورية الخامسة التي سيضعها فوز ''التجمّع الوطني'' بالأغلبية المطلقة، أو حتى النسبية، أمام اختبار عسير لمؤسّساتها التي يبدو أن الماكرونية أخفقت في تجديدها وتكييفها مع المتغيّرات الاجتماعية والثقافية الحاصلة في فرنسا.