النخيل شكلٌ من أشكال الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على الجبهة الشرقية... الإسرائيليون يسابقون الريح لزراعة ما أمكن من النخيل على الأراضي التي يسيطرون عليها والفلسطينيون يجهدون للحصول على المياه.
- تراود بعض المزارعين أحلام بأن يستطيعوا الوصول إلى الشجرة رقم مليون، وهو الرقم الذي احتفل المستوطنون اليهود بتحقيقه مؤخرا.
- المزارعون يجرون المياه لستة كيلومترات لإيصالها إلى مناطق زراعة النخيل.
أريحا- جميل عليان
حري بأريحا، أن تحمل اسما جديداً، فبعد مدينة القمر وجب أن تحمل اسم مدينة النخيل، وذلك بعد أن تحولت إلى واحة محاطة بعشرات الآلاف من أشجار النخيل. والمدينة التاريخية، التي اعتمدت تاريخيا على زراعة الموز والمحاصيل الحقلية، أصبحت تغرق هذه الأيام في حقول مترامية من النخيل.
«المدينة تتغير، أصبحت مدينة نخيل، وهذا واقع جديد.» قال نعيم العيساوي، وهو واحد من الرواد الذين بدأوا بزراعة النخيل في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، مستفيدا من تجربة سابقة، لكنها ظلت حتى ذلك الوقت متواضعة حتى انفجرت الأرض خلال السنوات القليلة الماضية بأشجار لا شيء يوقف تمدد نمو قممها النامية.
لكن على أرض الواقع ليست أريحا التي تغرق في هذا الكم الهائل من أشجار النخيل، إنه الغور على امتداده من الشمال حتى الجنوب. فالمدينة السياحية التي تتوفر فيها مقومات الحياة الزراعية منذ آلاف السنين أصبحت محط أنظار المستثمرين الذين صبوا فيها ملايين الدولارات للاستثمار في هذا القطاع الجديد.
العيساوي، والذي يرأس أيضا جمعية لمزارعي النخيل، وغيره من المزارعين بدؤوا قبل نحو عقد من الزمن بهذه الزراعة، في محاولة لتغيير الطابع الزراعي في المنطقة الحارة التي تتوفر فيها المياه بشكل نسبي. وهي أيضا محاولة لجني ربح مضاعف ولو بانتظار سنوات أكثر، فزراعة النخيل تحتاج لخمس سنوات على الأقل حتى تعطي ثمارا.
الآن يمكن للعيساوي، الرجل الذي بنى إمبراطورية النخيل له ولعدد من المستثمرين الشركاء، أن يفخر بكونه يستطيع التأثير في الاستثمار الزراعي الاستراتيجي شرق الضفة الغربية. تماما مثل «الجيران الأعداء»، سكان الـ «كيبوتسات» الاستيطانية الزراعية التي تسيطر على مساحات واسعة من المنطقة وتزرعها يوما بعد يوم بالنخيل.
وتشكل زارعة النخيل في الأغوار نحو ربع الضفة الغربية، وتقع في معظمها ضمن أراضي (ج) حسب اتفاقيات أوسلو المرحلية الممتدة، وقد أصبحت شغل المستثمرين الشاغل.
أريحا، إنها ليست مدينة القمر، ولا مدينة فجر التاريخ الحضاري الإنساني، فقط،إنها الآن مدينة النخيل. قبل سنوات كان لا يمكن لأي من سكان المدينة أو زوارها أن يتخيل بأن تغرق المدينة وسط حقول النخيل على هذا النحو.
«أنا أستطيع أن أزرع في أي شبر أرض إذا تمكنت من ذلك. أستطيع أن أزرع حتى إلى ذلك الحد.» قال العيساوي، فيما مد ذراعه على استقامتها نحو الحدود الأردنية الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل.
لقد امتدت زراعة النخيل إلى حدود لم يتخيلها المزارعون من قبل، حتى وصلت إلى السياج “الأمني”، وإلى هناك جر المستثمرون الفلسطينيون المياه من أعالي ينابيع أريحا، حتى بدت الزراعات الحقلية في بعض المناطق شرق أريحا مثل بقع ضئيلة وسط مزارع النخيل، والتي يمكنك مشاهدتها بصعوبة من تلة اصطناعية وسط إحدى مزارع العيساوي.
الناس هنا يحبون الزراعة، لكن زراعة النخيل رفعت كثيرا من مستوى التفاؤل إذا ما استمر الاستثمار على هذا النحو من التوسع في حال توفر الموارد المائية.
وكان العيساوي وغيره من المزارعين بدؤوا بزراعة عشرات الأشجار في أواسط التسعينيات مستفيدين من منحة غربية لزراعة الفسائل التي لم تكن متوفرة. الفسائل بنات النخيل الصغيرة وهي عماد الزراعة، وقد أصبحت متوفرة بكثرة بعد عمليات استيلاد مستمرة قام بها المزارعون.
«وقد يأتي يوم نعدمها، لن نجد مكانا لزراعتها.” قال العيساوي، في حين ردد المعنى ذاته مزارعون آخرون في عموم منطقة الغور الممتدة على عشرات الكيلومترات.
وتشير إحصائية رسمية حديثة لوزارة الزراعة الفلسطينية، أن عدد أشجار النخيل وصل إلى 150 ألف شجرة، وهذا يظهر جليا في أكثر من منطقة.
وتراود بعض المزارعين أحلام بأن يستطيعوا الوصول إلى الشجرة رقم مليون، وهو الرقم الذي احتفل المستوطنون اليهود بتحقيقه مؤخرا.
أصبح النخيل هو المسيطر استراتيجيا على الزراعة. ويمكن مشاهدة أجيال مختلفة من أشجار النخيل في مناطق متفرقة في محيط أريحا، ذاتها مزرعة العيساوي الممتدة على عشرات الدونمات تحفل بتشكيلات مختلفة من أشجار النخيل الصغيرة والكبيرة.
قال مدير زراعة أريحا المهندس أحمد الفارس، إن زراعة النخيل أخذت تتوسع بشكل كبير في المنطقة بسبب انتكاسات أصابت زراعات أخرى.
الزراعة تتوسع في كل المنطقة. هذا واقع وحقيقة، هناك أراض واسعة يرغب المزارعون بزراعتها لكن تبقى مشكلة المياه في حال توسعت رقعة الأراضي الزراعية.
ويقوم بعض المزارعين بجر المياه لستة كيلومترات في أريحا لإيصالها إلى مناطق زراعة النخيل في المنطقة الشرقية من المدينة، وهو ما يفعله العيساوي أيضا.
يقول الفارس: «نحن نعمل على مشروع لجر مياه البيره المعالجة إلى سد العوجا، إضافة إلى تأهيل نحو 25 بئر ارتوازي للتخفيف من أزمة المياه ولسد حاجات الزراعة الجديدة».
في بحر النهار في أيام الصيف الحار، تستهلك المزروعات كميات أكبر من المياه في أرض ملحية ملتهبة، لكن تبقى حاجة النخيل من المياه أقل من حاجة الموز مثلا.
«لذلك، ترك المزارعون هنا زراعة الموز والحمضيات وتوجهوا لزراعة النخيل، فالموز يحتاج مثلا لأربعة أضعاف كمية المياه التي يحتاجها النخيل». قال الفارس، وأكد العيساوي على كلامه.
وأشجار النخيل مكتملة النمو عادة ما تعطي ولادات فسائل آمنة تحمل ذات الخصائص الجينية للأمهات، لذلك عمد العيساوي إلى استيلاد فسائل من أشجار المجّول التي تعطي إنتاجا وافرا.
والمجّول هو الصنف الرئيس الذي يزرع في مناطق الأغوار، كذلك يعتمد المزارعون اليهود في الـ «كيبوتسات» الاستيطانية المجاورة على هذا النوع. وعلى امتداد خط 90 وهو شارع إقليمي يقطع الغور من شماله حتى جنوبه يمكن رؤية حقول المجّول تغطي الأفق من ناحية الشرق.
إنها حقيقة إمبراطورية جديدة تبنى هنا، وأحد أهم أشكال الصراع على الجبهة الشرقية، فالإسرائيليون يسابقون الريح لزراعة ما أمكن من أراض يسيطرون عليها، فيما يجهد الفلسطينيون للحصول على المياه للتمدد وزراعة المزيد من الفسائل، لذلك عندما بدأ العيساوي بالزراعة أخذ يمتد نحو الشرق، نحو النقطة الصفر التي تقترب من الحدود الشائكة.
«هذا قطاع واعد وقوي. قد نشغل خلال السنوات العشر القادمة ليس أقل من 4 آلاف عائلة»، قال رئيس جمعية النخيل، مشيرا إلى مجموعة من العمال كانوا يقومون بفرز أحجام متفاوتة من التمر في عبوات بلاستيكية توطئة لنقلها للتغليف والتصدير. ومن المحتمل أن تنتج فلسطين هذا العام نحو 3 آلاف طن من التمر المجّول حسب وزارة الزراعة.
«أنتجنا العام الماضي نحو ألفي طن من التمور، هذا العام سيتجاوز الإنتاج الـ 3 آلاف أو أكثر، وقد نصل إلى 50% زيادة، لأن الكميات تتزايد سنة بعد سنة» قال الفارس.
وأضاف سيتمكن المزارعون في العام القادم من إنتاج 5 آلاف طن. “وستكون عندنا كميات كبيرة من التمور، ونحن نتحدث اليوم فقط عن 50 % من الأشجار التي لم تعط ثمرا”.
قبل عقد من الزمن، كان الفلسطينيون يعتمدون على التمور المنتجة في المستوطنات، لكن حتى مع ارتفاع كمية الإنتاج المحلي، لا يستهلك الفرد في الضفة الغربية أكثر من 700 غرام من التمر وهذه كمية قليلة إذا ما قورنت بالاستهلاك الفردي في بعض الدول العربية.
« لكنه لذيذ، إنه عسل. أنظر، أنظر» قال أحد العمال في معرض وصفه الشاعري لحبات التمور التي كانت تتساقط في صندوق بلاستيكي من بين يديه بعد عملية فصلها عن تمور أقل جودة.
في أريحا وفي عموم الغور يسري شعور عميق بأهمية هذه الزراعة التي غيرت من شكل وجه الأرض. وثمة مستثمرون يراقبون هذا الاقتصاد النامي بعين الرضا.
قال الفارس: «كانت تلك الأراضي قاحلة، لكنها كلها الآن مزروعة بالنخيل. 4 آلاف دونم مزروعة»، ويشير الرجل إلى أراضي شرق المدينة.
لقد أصبحت أريحا واحات نخيل مكتظة، فعلى الطريق الشهيرة المؤدية إلى بوابات الجسر، المعبر البري الوحيد للأردن، يمكن مشاهدة فلسطينيين يعملون هذه الأيام على زراعة فسائل جديدة. أيضا المشهد ذاته يتكرر على مدخل أريحا الجنوبي حيث الطريق التي تؤدي إلى البحر الميت.
الزراعة تمتد، وأيضا الآمال تعلو مع علو الأشجار التي قد تشكل يوماً ما واحداً من أهم أسلحة المزارعين والمستثمرين في مقاومة التقلبات السنوية التي كانت تصيب أسواق الخضار، والرغبة عند بعض المزارعين للتوسع جامحة حتى لو كان هاجس توفر مصادر مائية دائمة حاضرا.
ذاته العيساوي وشركاؤه ينتظرون انتهاء فترة القطاف لزراعة مزيد من الأراضي. «سنسوي هذه الأرض ونبدأ بزراعتها قريبا». قال العيساوي: «عندما نزرع يعني أن هناك فرص عمل جديدة. يعني أن هناك حياة أفضل.»
في موسم القطاف يعمل نحو 100 عامل في مزرعة العيساوي، يظهر هؤلاء كأنهم ضليعون بما يقومون به من القطاف حتى التصنيف.
وتظهر الصناديق التي نشر فيها التمر مرتبة في صفوف طويلة على امتداد مخزن طويل داخل الحقل، وعلى الأطراف أيضا تجري عمليات التعبئة قبل أن تصل إلى مصنع التغليف.
إنها عملية بالغة الجهد لكنها بالغة الحساسية، فلا أخطاء في عملية الزراعة ولا أخطاء في عملية التصنيف» أي خطأ سينعكس سلباً على التصدير. نريد أن نصدر فلسطين في حبة التمر.» قال العيساوي.
في الأسواق المحلية الكل يعرف الصنف المجّول، وأيضا هناك أصناف محلية أخرى مثل البلدي وغيره. لكن الأسواق الخارجية هي هدف واضح للمستثمرين.
قال العيساوي: «إنهم اتجهوا إلى الأسواق التركية وأسواق أخرى. نحن مطمئنون أيضا إلى السوق المحلية بشرط عدم دخول تمور من الإنتاج الإسرائيلي».
يردد المعنى ذاته مزارعون آخرون، لكن كما يقول مدير مديرية الزراعة هناك السوق الروسي. «دخلنا إلى السوق الروسي. هذا مؤشر جيد ومشجع»