الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

فلسطين... قضية تتقدَّم وحلٌّ يبتعد| بقلم: نبيل عمرو

2024-07-09 08:35:37 AM
فلسطين... قضية تتقدَّم وحلٌّ يبتعد| بقلم: نبيل عمرو
نبيل عمرو

منذ بداية القضية الفلسطينية التي يوشك عمرها الرسمي على إكمال قرن، لم تكن قضية مهملة؛ بل كانت سبباً في سلسلة حروبٍ شاركت فيها دول وجيوش، كانت تفضي دائماً إلى فتح مسارات سياسية؛ إلا أنها جميعاً أخفقت في التوصل إلى حلول، ما كرّس حالة يراها الفلسطينيون مأساوية، وهي أن القضية حاضرة بقوة منذ بداياتها، إلا أن حلّها يبتعد، وما نحن فيه الآن يجسّد هذه الحالة.

قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وعلى عكس ما يُقال أحياناً، كانت القضية حاضرة بقوة وعلى نحو مفصلي، حتى في مسارات التطبيع المستجد وفق نهج «أبراهام» السلامي، كما كانت حاضرة في مسارات التطبيع القديم الذي افتتحته مصر، وتبعها الأردن، وبينهما محاولة أوسلو الفلسطينية، غير أن التطبيعين، القديم والمستجد، لم يحققا ولو خطوة واحدة باتجاه حل القضية الفلسطينية، وها نحن نرى قبل السابع من أكتوبر وبعده، كيف اصطدمت المحاولة بالجدار السعودي، لتظل القضية ما دام الاحتلال قائماً، والتحرر والاستقلال الفلسطيني ممنوعاً، هي المفاعل الأكثر نشاطاً في إنتاج الحروب واستحالة الاستقرار -ولو المؤقت- في المنطقة.

ثنائية إشكالية أنتجتها موقعة أكتوبر 2023، والرد الإسرائيلي عليها، والتفاعلات التي اجتاحت الكون جرّاءها جسّدها تقدمٌ قوي وحضورٌ طاغٍ للقضية الفلسطينية، رافقه ابتعادٌ عن الحل المنشود لها، أي الحل الذي يرضي الفلسطينيين، ويقبله الإسرائيليون، والذي اختصره العالم في المصطلح المتداول «حل الدولتين».

حين أرى أنَّ الحل يبتعد فذلك ليس تشاؤماً مرتجلاً أو تلقائياً بفعل الفشل المطَّرد لمحاولات الحل؛ بل بفعل الحقائق ومجرياتها، ونموذج غزة وحده كافٍ لإثبات ذلك.

غزة أضحت بعد تسعة أشهر من الحرب والدمار الشامل وغزارة الدماء، قضية معقدة بحد ذاتها، ولا حل يمكن الحديث عنه لأي من مكونات حالتها التي اختُصرت بسؤال عامٍ كبير: ما العمل هذا اليوم وما العمل في اليوم التالي؟

وإذا ما ذهبنا إلى إدارة أزماتها كبديل ممكن عن حلها، فسينهض أمامنا ألف سؤال، ولا إجابة حتى عن أبسطها:

من يختم الجوازات على معبر رفح؟

من يحكم القطاع بعد الحرب؟

وأسئلة كثيرة تتعلق بإسرائيل أولاً، ثم بالفلسطينيين ثانياً، ثم بالعالم بما فيه الإقليم أخيراً. وإذا ما رغبنا في توسيع السؤال، فكيف ستفضي حرب غزة إلى حل للقضية الفلسطينية، بما يرضي شعبها ويلبي الحدود الممكنة لحقوقه؟

الإسرائيليون يعدُّون حل القضية الفلسطينية شأناً تقرره لعبتهم الداخلية، فإما الإخضاع المطلق للملايين الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، وإما حرب إلى ما لا نهاية، وليس سموتريتش وبن غفير ونتنياهو من يفكرون وحدهم في هذا الحل.

لقد جازف حزب العمل بحلٍّ وُلد في أوسلو، وكانت النتيجة أن قُتل عرّاب الحل بقرار إعدام مباشر، وتحول حزب الأغلبية شبه الدائمة في إسرائيل إلى أقل الأقليات. منذ تلك الحقبة بدأ التدهور، ولم يتوقف حتى الآن. ليس في فلسطين وحدها؛ بل وعلى مستوى المنطقة بأسرها.

الخلل الجوهري يكمن في أن مفاتيحَ الحل لا تزال بيد الإسرائيليين الذين آثروا محاربة الفلسطينيين بلا هوادة، وإدارة الظهر لرغبة العالم كله في إنصافهم، ومن الخطأ الفادح نسبة هذه الحرب الإسرائيلية لدوافع وقائية أو أمنية، بقدر ما هي حربٌ مصيرية أساسها ألا تقوم للفلسطينيين دولة حقيقية.

الفلسطينيون قليلو القدرات الدفاعية، بالمقارنة مع ما يمتلكه خصمهم، وفوق ذلك ابتلتهم طبقتهم السياسية بانقسامات داخلية شرسة، بعضها أساسه اقتتال على جلد الدب قبل اصطياده، ما أنتج انقسامات فرعية كثيرة أدَّت إلى نتيجة واحدة، وهي استنزاف طاقاتهم، واغتراب ممثلهم الشرعي الوحيد (منظمة التحرير)، وضعف حضوره في المعادلات. فإذا كانت «حماس» المقاتلة هدفاً لتصفية بندقيتها، فـ«فتح» المفاوضة هدف لتصفية أهدافها.

القضية تتقدَّم حقاً؛ حتى إنَّها فرضت نفسها على الشعوب والدول، ولستُ بحاجة لسرد قرائن على ذلك، فقد ملأت الدنيا، واجتاحت وسائل الإعلام، ودخلت كلَّ بيت، وأثّرت في اتجاهات دول وحكومات، غير أن هذا التقدم الشامل لم يُنتج بعد -بفعل التحالف الأعمى بين أميركا وإسرائيل- ما يطمئن الفلسطينيين إلى أنَّ حلَّ قضيتهم بات قريباً؛ بل إنه يبتعد.

الفلسطينيون -على الرغم من فداحة خطايا الطبقة السياسية التي تفرض نفسَها ومصالحها على حياتهم- قيّدوا أنفسهم بأغلال مجيدة لا فكاكَ منها مهما كانت التكاليف والأثمان، أولها بقاؤهم على أرض الوطن، في غزة المدمرة والضفة والقدس، وقد أثبتوا قدرتهم على ذلك، وثانيها ترويض الوحوش الكاسرة التي تداهم مدنهم وقراهم ليل نهار، بالتصدي لها وتحمّل أذاها، والتغلب عليها بالتشبث والبقاء على أرض الوطن، وتحريم الهجرة، وثالثها -وأراه الأهم- بناء الحياة مهما قلّت الإمكانات المادية لذلك: مدارس وجامعات تضمّ مئات الألوف، واقتصاد أزمات يوفر ما يحتاجه الناس من مقومات حياة، وهذه هي المقاومة الأفعل التي لا تهزمها جيوش وأساطيل.

أعود إلى العنوان مضافاً إليه جملة واحدة: «قضية تتقدم وحلٌّ يبتعد... وفلسطينيون يصرُّون على بناء الحياة».