(يبدو أنك ستحتكر النار لنفسك يا عيسى..)
من يعمل في دائرة دفن الموتى في زمن الحرب، وفي مدينة قسّمها أهلها والغرباء إلى قسمين، لكل واحد فيها طقوسه في إكرام الميت وإعدام الحي، يفقد إحساسه بالزمن شيئاً فشيئاً، ويصبح الليل فتّاكاً إلى درجة التطهير النوعي.
كان عيسى يدرك ذلك الأمر، ووجد أن أفضل طريقة للتصدي لجحافل العتمة المتوحشة تكمن في استدعاء شريط حياته، وبما أنها لم تكن بطولية وأحداثها عادية، أو عيسى أرادها كذلك، فإنه كان يكررها بين كل ليلة وأخرى، وكان في كل مرةٍ يكتشف جديداً فيتوقف عنده كثيرا، وينبش قديمه مرة أخرى، ويربط طرفيّ الحكاية، ويواصل.
تلك الليلة، انهمرت الأحداث من سماء ذاكرته نحو أرض الليل غير الخصبة، وخاصة الأحداث التي تعلّقت بدراسته وعمله، أمطرت عليه رغم أنه تأملها عشرات المرات، لكنه في تلك الليلة خُيّل له أنه اكتشف أمرا غريبا، فتمدّد على الأرض وأقفل عينيه واستسلم لصوته:
(أنت لم تلتحق بالجامعة يا عيسى، كنتَ وما زلت تؤمن بأن للمعرفة درب آخر غير الجامعة، وأنها لا تُستقى من أصوات الأساتذة أو الكتب الأكاديمية الجامدة، وإنما من القصص التي تقطر حياةً وألما، كقصة المسيح الذي لم يدخل الجامعة، لماذا يحضر المسيح دائما، يبدو أن اسمك شكّلك بطريقة مختلفة، ما زلت تشعر أن قصة عيسى المسيح روحانية وتعيد ترتيب الأنفاس في الرئة، وترى أن قصة نبي الإسلام هي قصة روحانية تعيد ترتيب الرئات في الأنفاس، هل من معنى لهذه اللغة، لا بد من وجود معنى، فالأنفاس والرئاس كيان واحد، والعلاقة بينهما، تقدم الأول عن الثاني أو الثاني عن الأول، تبقى علاقة ترتيب للحياة، ولا يوجد أي تنافر بينهما، بل هناك انسجام من ذاك النوع الذي لا يدركه سوى موظف يعمل ليلا في دائرة دفن الموتى، ويشبه تماما الانسجام في قصتي (الرفع إلى السماء)، أنت تحب أن تقتنع بأن المسيح في الإنجيل قام بعد وضع جثته في الكهف، ورفعه الله إلى السماء، وتحب أن ترى أيضا أن المسيح في القرآن (قام) قبل صلبه، وأرسل الله لمعذبيه من يشبهه رأفةً به، ورفعه الله إلى السماء، وهكذا تكون النتيجة واحدة، وهذا لن تجده في الجامعة، فلو التحقت بها كنت ستجد من الأساتذة والطلاب من يؤمن بهذا وينكر ذاك، كما ستجد في كتب المنهاج الدراسي الاختلاف على أشدّه، بينما في واقع الأمر لا اختلاف بين القصتين، ويحضرك الآن وأنت في عزلتك حديث نبوي يقول: (نحن معشر الأنبياء أولاد علاّت، ديننا واحدٌ، وشرائعنا مختلفة)، أنت تتذكر الآن أنك حين بحثت في المعنى الذي استشعرته في غاية الأهمية والخطورة، فوجدت معنى أبناء العلات هم "الإخوة من أب واحد وأمهات شتى..).
هزّ رأسه عند منتصف تلك الليلة وابتسم، وتذكر أنه لم يجادل مدرّبه في المعسكر بشأن ذاك الحديث بشكل خاص، وفضل الاحتفاظ به لنفسه.
( بعد انتهائك من الخدمة العسكرية التي استمرت عامين، قررتَ الخروج من (كهف) المعسكر، حيث يتدرب الشباب على القتل، إلى سهل الحياة، شعرـ أنك مزود بخبرات كثيرة؛ إسمك ومسماك، وموت أبويك، وخبرة الخدمة العسكرية بما فيها المدرب الذي اذاقك التعذيب دونما سبب وجيه، وقائد المعسكر الذي ربطتك به علاقة جيدة، خاصة حين قرر نقل المدرب إلى معسكر تدريبٍ ثان، واعتبرتَ ذلك موقفاً رائعاً، وزاد إعجابك به حين عرض عليك البقاء في الجيش، وزيّن لك الحياة العسكرية بما تحمل (من عزةٍ وكرامةٍ ورجولة وخدمة للوطن)، إضافة إلى مستقبلها الجيد وامتيازاتها المادية الكثيرة، خاصةً عندما تحصل على رتبة عالية، لكنك رفضت بأدب جم عرض القائد، رغم حاجتك الشديدة لمورد رزق، وقلتَ له بصراحة تامة: (أشكر لك تعاطفك ومحبتك سيدي، لكنني أخشى أن يأتي يوم أقاتل فيه زملائي، فهناك من يحقد على الآخرين بسبب أسمائهم، وهناك من يكرههم بسبب طرائقهم في الصلاة، وهؤلاء الكارهين كثيرون يا سيدي، وأرى في المدى خيالات لا أحب البوح بها، فأنا لست الرائي البصير، ولا المتنبئ الفذ، ولا القارئ للغيب، وأرجو ألا تتحقق رؤيتي..). ولم يكترث القائد لما سمع، ولم يسأل عن الوقائع والحيثيات التي بنيت عليها رؤيتك، واعتبر موقفك نتيجة منطقية لمعاناتك مع المدرب المتطرّف.
اشتغلت في مهنٍ حرة كثيرة، ختمتها بالعمل نادلاً في مقهى، حين التقيت صاحب المقهى، لمحتَ في عينيه أمرا ما حين وافق على إعطائك فرصة عمل، انتهازيةً من نوع مختلف، رأيت فرحةَ من وقع على كنز، وأنك ستجلب له زبائن جدداً ومرتادين كثيرين. وتحققت أمنيته في الشهور الأولى، غصّت القهوة بالمرتادين، كانوا يحضرون ليراقبوك كيف تحمل صينبة القهوة والشاي، وكيف تثبّت الجمر على رأس النرجيلة، وكيف تمشي وتتكلم وتضحك وتتناول البقشيش والإكراميات، كنتَ تفهم كل ما كان يجري حولك، وتقرأ عيون المرتادين، لكنك كنت ترفض تصديق الصورة التي يرونها، وتعاملت مع المشهد باعتيادية خضراء، فكوّنت صداقات مع شباب كثيرين، كانوا يمزحون معك ويتبادلون الأحاديث بحميمية، فرحين بملاك يتحدث مثلهم، ويضحك مثلهم، بل يحضّر لهم القهوة والشاي والنرجيلة، لكن وعلى الجانب الآخر من ضفة المشهد، كانت لعنة اسمك في انتظارك، وكنت تلمحها وتصمت وتغض الطرف؛ كانت مجموعة من رواد المقهى تنظر إليك باستهزاء وتهكّم، شاكسوك كثيرا وتحمّلتهم، ذكّرك بعضهم بالمدرب العسكري حين تهكّم على اسمك، فأدركت أن الجهلة أيضا يرتادون المقاهي، لكنك لم تغضب من أحد، أقنعت نفسك أنهم يتسلون فقط، فرواد المقاهي، كما كنت تشعر، بشر يحيون على ناصية الطريق، يشغلون أنفسهم بمراقبة الآخرين، يرتبون مراتبهم وفق أهوائهم، ويتحرشون بهم كلّما شعروا بتجاهلهم، فمن يجلس في المقهى إنما يريد الظهور أمام الملأ، نافخا دخان نرجيلته وهو يجلس كالباشاوات.
لم تستمر الحرب الباردة بين معسكري المقهى فترةً طويلة، شعر محبوك أنك قررت التزام الصمت والابتعاد عن المشاكل، لكنهم لم يتمكنوا من كظم غيظهم، ومع استمرار تسخين المواقف والتلفظ بالكلمات الجارحة المستفزة من قبل الكارهين، انقسم رواد المقهى بشكل تلقائي إلى فريقين، فريق معك، وآخر ضدك، فريق يحبك ويرى فيك البراءة والنظافة والطهر والبساطة والوعي، وفريق يمقتك ويرى فيك شخصية كافرة نجسة وُلدت في كنيسة، ويحظى بحب مضخّم، وكنت أنتَ تخدم الفريقين دون تمييز، تبتسم للجميع بقلب يطل على ساحل الحب، إلا أن التوتر تراكم وأصبح ورماً على مشارف الانفجار، فوقعت مصادمة كبيرة بين الفريقين، استخدم فيها كل طرف الطاولات والكراسي والسكاكين والنراجيل والجمر والملاقط، لمستَ كمية الحقد والكراهية والغضب بين الجهتين، اتصل صاحب المقهى بالشرطة، حضر أفرادها بأسلحتهم كأنهم ذاهبون إلى معركة شرسة، فعاد المتصارعون إلى فناجين قهوتهم، وتم التحقيق في الأمر، وقال صاحب المقهى الكلمة الفصل، فسيق عدد من الرواد إلى مخافر الشرطة، أفرج عن بعضهم في وقت لاحق، وتم التحفظ على البعض، خاصة أولئك الذين كانوا يتندرون على اسمك.
اعتقد صاحب المقهى أن وجودك، وإن كان يجلب الزبائن للمقهى، سيتسبب بحرق باب رزقه لو نشبت معركة مماثلة في المرة القادمة، فاستدعاك، شرح لك ما حصل بأسلوب مفعم بالتذمر من هؤلاء "الشياطين"، فهمت الرسالة، وأخبرته بنيتك البحث عن عمل في مكان آخر، فاعتذر صاحب المقهى، ومنحك مكافأة مجزية كنهاية خدمة.
لم تغضب يومها أيها المطرود، ولم تحزن لمغادرتك أصحابك في المقهى، واقتنعت أن المهن الحرة كلّها مملة ومحفوفة بالمخاطر ولا تناسبك، فأينما ستحل سينقسم الناس بشأنك، وقررتَ العمل في أي مهنة في القطاع الحكومي، وكنت تبحث عن عمل غير عادي أو تقليدي، لكنك لم تستطع تحديده بكلمات، أردت أن تختلف عن الناس وتعمل معهم في الوقت ذاته، فتوجهت إلى مديرية توظيف المواطنين، تعرّف مسؤول توظيف الموارد البشرية إليك فور دخولك مكتبه، وبعد حديث امتزج فيه الفضول بالود، سألك عن مجال عملك المفضل، فقلت له بلغة الملائكة:
- أنا إنسان بسيط، أعمل في أي وظيفة شاغرة الآن، فماذا سيعمل شاب مثلي لا يحمل سوى شهادة الثانوية العامة!
(تردّد المسؤول في عرض الوظيفة الجاهزة التي تستطيع مباشرة العمل فيها فورا، لفّ ودار في الحديث، وفي النهاية سألك ممهّدا وبأسلوب لم يخل من الدعابة:
- هل يلقبك الناس حقاً بالميت الحي أو الحي الميّت؟
ضحكتَ، لم يكن الناس يطلقون عليك ذاك اللقب، اخترعه المسؤول في تلك اللحظة، بينما كانت عيناك تطوفان وتتفقدان جدران المكتب وسقفه، أيقن المسؤول دون براهين أنه أمام إنسان غير عادي، سيصنفه الناس بالملعون والمبارك، والملاك والشيطان في الوقت ذاته، لكنه لم يستطع مسح انطباعه بطيبتك وبياض سريرتك، فقال لك بشكل مباشر:
- ماذا عن دائرة دفن الموتى؟
رسمت مكان العمل في ذهنك؛ دائرة تستقبل الموتى، نساء ورجالا وأطفالا من كافة الأعمار، دائرة ترى فيها وجوه أصحاب الموتى الحقيقية والمفتعلة، دائرة تتفق ولقبك الحديث "الميت الحي والحي الميت"، يتم فيها تجهيز الموتى كأنهم ذاهبون إلى حفلة تنكّرية رغم تشابه ثيابهم وروائحهم وخلو أجسادهم من أرواحهم، وافقتَ فوراً على العمل وسط دهشة المسؤول، الذي لم يستطع إخفاء صدمته، فقال لك:
- أبناء جيلك يبحثون عن أماكن عمل توفر لهم الراتب الجيد والامتيازات والبيئة المختلطة المليئة بالصبايا الجميلات، يحلمون باقتناء سيارات جديدة والشهر في أماكن معروفة، أما أنت فتوافق على العمل في دائرة دفن الموتى، هل تعلم من يعمل هناك يا عيسى؟
- الأموات..
حملق المسؤول بارتباك من ظهر له شبحٌ في منتصف الليل، صدمه الجواب وعقد لسانه، لاحظت ذلك وظننتَ أنه مطالب بالشرح ففعلت مكرهاً:
- لم أقصد يا سيدي بأن الأموات يخرجون من ثلاجاتهم ليعتنوا بأموات آخرين، لكنني أحببت أن اقول لك، إن الأحياء في النهاية هم أموات، أليس كذلك؟ إنها فكرة مكررة وبسيطة..
لم يجب المسؤول، واصل الحملقة، فقلت:
- في هذه الدائرة يا سيدي، لا أتوقع أن يعيّرني أحدٌ باسمي، أعلم أنك تعتقد بأنهم قلة قليلة، لكن الأيام ستثبت لك أنهم أكثر مما تتخيّل، ولن يعيّروني باسمي فقط، أو بالطريقة التي أصلي بها، وقد تكون مختلفة عنهم، ولكنهم سيقتلونني أمام الناس، وربما أمام الأطفال..
نطق المسؤول أخيرا:
- هل تقرأ المستقبل يا عيسى؟
- لا أدري إن كان كلامي يدل على أنني أقرأ المستقبل، أنا أجتهد مثل غيري في قراءة الحاضر فقط..
وحين واصل المسؤول صمته بادرته بالقول:
- أما عن توجهات الشباب وأحلامهم، فأنا أؤيدهم، وأطمح أن أكون مثلهم، ولكنني لا استطيع..
- لا تستطيع أم أنك لا تريد..
- كلا الأمرين يا سيدي، أنا لم أصل إلى درجة الحلم، ولهذا لا أستطيع، وأنا لم أعرف نفسي بعد، ولهذا، لا أريد، والاستطاعة والإرادة يا سيدي بحران من التجليات النابتة من بذرة العزم، وبالنسبة للعمل، أعلم أنه ليس ممتعاً، لكنه عمل حقيقي ومهم، لأنك تتعامل مع الحقيقة التي لا تقبل الشك أبداً.
باشرت عملك في اليوم التالي، شعرت بالخوف في اليوم الأول، وبالرهبة في اليوم الثاني، ثم اعتدت على المشهد بسهولة، وتقبّلت تفاصيله باستثناء البكاء والضرب على الصدور وشد الشعور وحالات الإغماء، وكنت تتمنى في آخر كل نهار، وبعد ذلك، في آخر كل ليل، أن يأتي يوم يختفي فيه الأموات؛ يختفي الميت بدلاً من خروج روحه، بحيث يدل اختفاؤه على موته، كنت تعتقد وما زلت، أنه لو تم ذلك فإنك ستتخلّص من كل مراسم وطقوس الدفن، وأصحاب الميت سيتخلصون من البكاء، والاختفاء منطقي بالنسبة لعيسى، العودة إلى العدم هو الأمر الأقرب إلى عودة الإنسان أو الكائنات إلى أصلها، فقد جاءت من العدم، وتذهب إلى العدم، وظلت أمنية تعيش في هواجسك: أن تفتح يوما أحد الصناديق الباردة لتجد أحد الأموات قد اختفى، لا أن تُكتب له معجزة ويصبح المسيح، ولا أن يتحول إلى فريسة تنهشة الوحوش الكاسرة أو الدود في مكان ما، تمنيت أن لا يترك الأموات خلفهم أثراً يدل على مكانهم، حتى تختفي جلسات البكاء والحزن والنواح وارتداء السواد وتعليق الصور، واكتساب ألقاب مثل الأرمل والأرملة واليتيم، وانتشار الشفقة في الوجوه التي يسيل لعابها، صحيح أنه لو حدثت تلك المعجزة فإنك ستفقد وظيفتك في دائرة دفن الموتى، لكن لا بأس في أن تتجول الدائرة إلى أمر آخر، إلى متحف للذكرى، يأتي إليها الأحياء ليستعيدوا ذكرياتهم مع أحبابهم وأصدقائهم المختفين، ولا بأس من إهدائهم باقات ورد تُنثر في المكان، أو تُهدى لصبية صادف مرورها في تلك اللحظة، أو لشاب يستعد للزواج صادف مروره أيضا، أو، لا بأس من الذهاب إلى حفلات الأعراس وإهداء العرسان الورود، فتكون رسائل محبة من المختفين للظاهرين، وأنت تعتقد أن الحياة عبارة عن لعبة اختفاء وظهور، الميت سيختفي من الذاكرة بعد سنوات، وهكذا يكون الموت والاختفاء توأمان.
تلك الأمنية، اختفاء الموتى، أتتك نتيجة تطور أو تأخر فنون الموت، وانتشارها بأشكالها بين الناس، فالموت يتسيّد حياة البشر في المدينة منذ اندلاع القتال قبل أربع سنوات، بين طرفين مجنونين قاتلين، وأنت أحببت أن تؤمن بغموض الموت، وألا تفكّر بالجنة أو النار، حتى لا تتورط بتوزيع الناس على الجنة أو جهنّم استنادا إلى مكان قدومهم، كما يفعل حكام المنطقتين الشرقية والغربية، يقتلون الناس بناء على ما يعلقونه على صدورهم من صلبان أو أهلّة أو عيون زرقاء أو مجسمات صغيرة للقرآن، أو بناء على طقوس سجودهم وما يضعونه أمامهم من كتب أو حجارة صغيرة، وكلهم قتلة في نظرك، فحكام المنطقة الشرقية ليسو بعيدين عن العربدة، ومآلهم الحتمي لن يكون الجنة كما يدعي حاكم المنطقة، الذي زادت جرعة إيمانه حينما وجد نفسه وجها لوجه مع أطراف تحاربه بالدين، فكرر ظهوره في المساجد في المناسبات الدينية. وحكام المنطقة الغربية ليسوا جميعاً قريبين من الله، أو أن نهاية رحلتهم الدنيوية ستكون وسط حوريات جنة خُلقن خصيصا لمتعهم وشهواتهم ورغباتهم، كما يدعي أمير المنطقة الغربية.
لم تكن تشغل نفسك بما بعد انعدام الحركة فوق التراب، وكان يحلو لك حين تطرق أذنيك أوصاف وألقاب مثل "شهيد" و"بطل" و"مثواه الجنة"، التفكير بالفئة الضالة المسكينة التي ستذهب إلى النار، فتنتشي في حوار عبثيّ مع أفكارك المجنونة أحيانا، وتصل إلى نهاية هزلية سوداوية فتخاطب نفسك بتهكّم مؤلم: (يبدو أنك ستحتكر النار لنفسك يا عيسى)، فتطمئن لنهايتك: (على الأقل سأكون بعيداً عن أصحاب النفوذ في المنطقتين الشرقية والغربية، وعن ممارسة الدعارة هنا في جهاد النكاح وهناك مع الحور العين)، لكنك كنت تعود فتبسمل وتحومل وتستغفر وتتعوذ من إبليس وحلفائه، مثلما تفعل كلما قابلت حاجز جيش أو نقطة تفتيش لمسلحين، وتتمنى بينك وبين نفسك، أن تصحو ذات يوم، فلا تجد أحدا في الشطرين سوى الأطفال، وتكون أنت المعلّم الوحيد، فتعمّدهم في الكنيسة، وتؤذن في أسماعهم في المسجد، وتطلقهم إلى الحياة كبذور القمح..)
انتهى الليل بسرعة على غير عادته، وحانت لحظة مغادرة الدائرة إلى المنطقة الشرقية، حيث ستكون أخته في انتظاره، كما كان فارس في انتظاره أمام الدائرة.
نهض بتثاقل، حمل معه رأسه المفعم بالأمنيات والتهيؤات، هبط الدرج المتآكل بحذر، مرّ على صندوق محدّد من صناديق ثلاجة الموتى، فتحه، أدى التحية لساكنتها، وعبأ صدره برائحتها التي كانت تشبه عطر الياسمين، أقفل الصندوق بهدوء، وخرج.