"أنا الذي جرّبت كل أشكالِ الخوف،
لا زال قلبي يرتجف كلمّا أحسست بالموت ولا أعرف مكانه،
الموت يأتي من كل مكان،
في عيون أمي، وخطوات أخواتي الصغار.. وهذا ما يخيفني."
(بلال إياد عقل- 8 حزيران 2024)
لم نكن في فلسطين أقرب إلى الموت مثلما نشهده اليوم من التصاق به كما هو في غزة، موت بالجملة وفرادى، كبارا وصغارا، نياما وأيقاظا، لكأنما الفلسطيني فاقد للصلاحية يستدعي إتلافا مستمرا. يقدم الموت نفسه في غزة حضورا في أقصى تجلياته المادية المتحققة عيانا أمام أنظارنا، مرئيا مباشرة لحظة وقوعه، نتعرف على القاتل بكل وضوح، وتوثق جريمة القتل على الهواء مباشرة، ويتكرر بث الجريمة مرات ومرات. إنه نوع من الموت الذي يحمل تناقضه معه، إما أن يُدخل المرء في حالة من الصدمة فيمنعه من التفكير تماما، أو يدخله في حالة من تفكير قلقٍ مستمر في محاولة لإعادة ربط ذاته بإنسانيتها. ويُستثنى من حالة التناقض هذه النمط الحيادي الذي يَنتج إما لفقدان حساسية الألم تجاه الضحايا، أو الحاجة إلى وقاية النفس من ألم زائد لا حاجة لها به. غير أن المهم ليس تجربة من هم بعيدون عن الموت، أو يلاحقونه بالتنقل عبر الشاشات، أو من يُعلّقون على تجربة الموت، أو يصفونها، أو يقيّمون اصطلاحها القانوني ومدى انطباقه على الموت في فلسطين في غزة فيما يشبه الفضيحة الأخلاقية. ما يهم هو تجربة من يمشون المسافة ذهابا وإيابا باتجاه الموت أو عودة منه على شكل نجاة مؤقتة، ودون خيار آخر. إنه قلق من هم في حالة إنتظار، ترقب الموت، توقعه، الفرار منه صدفة عندما لا يأت الآن، وملاقاته في اللحظة التالية التي يريد الموت عندها أن يملأ بطنه، فكل لحظة هي لحظة مليئة بجوع الموت للأجساد في غزة، فهو لا يشبع أبدا. سيلتصق الحي بالميت تماما، فهو يعرف أنه الميت اللاحق بميت سابق، هكذا يرى الفلسطيني موته أمام عينيه قبل أن يموت، حتمية خطية ثابتة الاتجاه، يحدد معالمه زمن الإبادة المستمر الذي لم ينته بعد من موته، فماذا يرى الميت الفلسطيني من تفاصيل موته قبل أن يموت؟
معمارية الموت: دائرية هندسة المكان في فضاء الإبادة
"كيف أقنع الطفل الذي بجانبي أن هذا المكان الذي ليس فيه جدران ولا شبابيك، هو بيتي؟"
(بلال إياد عقل- 9 أيار 2024)
لن يكون الحديث عن معمارية الموت حديثا رياضيا حسابيا، أو فهما سرياليا، أو تعبيرا مستمدا من لغة قائمة على الاستعارة والمجاز، فالواقع الذي تخطى بمراحل عُدَّة العلم، والترميز باللغة، واستلهام الخيال، لم يعد بحاجة لإضافات يكتبها الأحياء، فالميتون، الذين كانوا أحياء قبل قليل، أسلست اللغة عقالها لهم، فتركوا لنا شاهديتهم على موتهم حاضرة، تركوها بلغتهم مُعلّقة على الجدران الافتراضية أمام أعيننا، ذاكرة تتحرك ما بين الآن الذي أصبح أمسا، والغد الذي صار ماضيا، بينما نقوم بصف الأحرف الواحد بجانب الآخر.
يخلق الموت معماريته الخاصة في فلسطين في غزة، حيث المكان أشبه بالقبر المفتوح، الذي يستقبل الأجساد من كل مكان، دون تحفظ أو استئذان، وبلا مراعاة للحرمة، فهو يتلامس معها، يدنو بفمه منها ليمتص الحياة في كل لحظة ممكنة، فلا جدران له، ولا فواصل تحدد الحيز العازل ما بين الأحياء والأموات في استعداد معلن أن لا حياة ممكنة أو متوقعة، فالمؤجل ملتحق دائما بصيغة النهاية حكما محتوما بالموت. سيتشكل الحيز الممكن والوحيد وفق منطق المحاصرة بالموت، فالمكان الذي كان محاصرا ظل محاصرا، إلا أن حصاره اليوم متحرك مفتوح دون توقع لحظة نهاية، ولم يعد ثابتا رياضيا يقاس بعدد السلع التي تدخل غزة، أو بعدد السعرات الحرارية المخصصة للأحياء، أو بعدد المسافرين المغادرين أو القادمين عبر معبر رفح. امتدت أقدام الحصار ليركبها الموت ليمشي على رجلين ويرسم دائرة مغلقة، في مركزها يفيضُ الموت عن نفسه كنافورة تنز دماء وأجسادا في كل الأوقات، وليخلق شموليته العمومية في إطار أحادي الاتجاه كل أنصاف أقطار دائرته تؤدي إلى مركزه: الموت.
لن تكون لدائرية الموت حدود، فلا حدود لممكن الموت، فالمستعمر القائم بفعل الإبادة عبر تفعيل الموت خاصية وحيدة ودائمة في المكان سيجترح تركيبة عبثية لتفكيك وتركيب الموت بصيغة دائرية طبقية. كل دائرة منها، دائرة من الجحيم المتراكمة فوق بعضها البعض، طبقات متماسكة متلاصقة، تختلف فقط عند اختلاف زاوية النظر، فالناظر من أعلى سيراها مسطحة دون أبعاد وبلا عمق، نظرة فوقية استعمارية متعالية لا تمييز فيها ما بين البشر والحيوانات أو ما بين الحياة والموت، فهي طبيعة جرداء خالية من الإنسانية، معادية وعصية. أما الناظر من الجنب، فسيكون كالصاحب بالجنب، رفيق زمني، يجترح مسافة بينه وبينك مفروضة قسرا أو طواعية، ينظر متآلفا مع المأساة متباعدا عنها، لربما يحزن أو يتألم، أو لربما يتجاهل ما يحدث تماما. أما الذي ينظر إلى دائرة الموت وهو فيها فسيرى تفاصيلها، ويحدد وهو يمشي خلالها، وهو مملتئ بالخوف والسؤال، معمارية الموت التي تنجلي أمامه قبل الموت بقليل وأثناءه وبعده:
"أمشي في الشارع على أطراف أصابعي، هل دُست لتوّي على أشلاءٍ لأحدهم؟ هل تسامحني تلك العائلة التي مررت فوق صورتها الجماعية في ركام الطريق؟ هل كان عليّ أن أرد التحيّة للأطفال الذين يزالون تحت الأنقاض في البيت الذي على يميني؟ في الشارع رأيت أطفالاً يلعبون و يطيرون في الهواء بعيدًا عن الأرض كأنهم أبطالٌ خارقون، وعند اقترابي عرفت أن أرجلهم قد بُترت. في الشارع أمشي وسط الطريق خوفًا من أن تَهيل البيوتُ فوق رأسي، أمشي كثيرًا وأُضل الطريق إلى بيتي، أنادي على غرفتي من بين الركام، كيف تشابهت فجأة كلّ هذه البيوت المدمرة أمامي؟
( بلال إياد عقل- 10 شباط 2024)
في دائرة الموت ستتشابه الأشياء لتشابه فعلها المنتج، تتكوم دون تمايز فينتفي التمييز، فلا يمكن تمييز بيت عن بيت، ولا طريق عن طريق، وستتشابه الأجساد حتى تُعرّف بانتسابها إلى مجهول، وسيسود الاختزال قيمة عليا، فالجزء يصبح الكل، والتمام في النقصان، فالأشلاء ستحل محل الجسد كتعبير عما كان مكتملا. وسيصبح الحضور الذي كان متحققا غيابا كاملا، لا دليل على حضوره سوى صورة هي نسخة عن صورة لعائلة اختفت، وتلك الصورة لن تستمر هي الأخرى موجودة لوقت طويل لاحتمالية عالية بتعرض المكان نفسه لجولة قصف أخرى، حتى يكون المحو مضاعفا. أو ربما يصبح المحو مزدوجا فالعائلات التي محيت من الحضور العياني، يجب محوها من الذاكرة تماماً، فستمّحي كاملة من السجل المدني بقصف مقرات الدوائر الحكومية ليمّحي الأثر ودليله المادي. (سترى أنك لست هنا وأنك لم تكن هنا!)
في مسارب الموت الدائرية ومساراته اللولبية ليست هنالك طرق عادية، لا تلك التي تصلح للتمشي أو ممارسة الرياضة أو لقاء حبيبين، بل هنالك فقط طرق لا يمكن للفلسطيني خلالها مخادعة الموت، كل الطرق تؤدي إلى الموت، فالمكان عبارة عن متاهة واسعة من الأشلاء والبقايا، فكل حركة تصطدم ببحث، قد يكون في أغلب الأحيان عقيما، عن طريق للخروج من المتاهة لا ينجم عنها سوى مزيد من الفقد وافتقار للوجهة والاتجاه وفقدان للتوازن. والطريق الوحيدة لخداع الموت هي بأن يخدع الفلسطيني نفسه بأن شكل موته لن يكون مثلما يراه أمامه من أشلاء على الطريق، أو جثث متحللة أو أطراف مبتورة. أو يمكنه أن يخدع نفسه بأنه قد يتمكن من أن يزرع صورة عن هيأته الآن قبل أن يموت كوصية يوصي بها تحفظ ابتسامته ودفئ يده ووجه في ذاكرة الآخرين. فلن يكون الجسد المكتمل بعد الموت فضيلة يتمتع بها الميت الفلسطيني بعد الموت، بل ستوضع في خانة التمني في حده الأدنى، تمني اكتمال الجسد الميت دون نقصان في محاولة لاسترداد الكرامة بعد الموت، واسترداد جمالية الأنا في الجسد قبل أن تمتصه الديدان وقبل أن تلتهمه الضواري.
"إذا وصلكم خبر استشهادي، لا تأتوا لوداعي إلا إذا كنت جسدًا كاملا كما عرفتموني، وجهًا باسمًا يُمكن أن يُقبّل، يدًا دافئة يمكن أن تُحضن، لا أريد لجسدي أن يكون شيئا آخر في ذاكرتكم، أريد لتراب هذي البلاد أن يحتضنني في الأرض، كلّي."
(بلال إياد عقل- 27 شباط 2024)
ستستمد رعاية الفلسطيني لجسده من فهمه له كقيمة جمالية في فلسفة الجسد الفلسطيني الميت التي ترتقي بالجسد إلى مصاف المقدس فلا تنزله منزلة دنيا ولا تحتقره، لذلك لا توظف لفظة "الموت" بصيغة الفعل توظيفا مباشرا في لغة الفلسطيني، فالفلسطيني يستشهد ولا يموت، والجسدُ لا يسقط بل يرتقي. وعندما استدرج نتنياهو في خطابه الرابع أمام الكونغرس الأمريكي عبارة أن ثقافة الفلسطيني هي الموت أما ثقافة الصهيوني فهي الحياة، إنما استعار من نيتشة احتقاره للجسد الذي يستمد فهمه للوجود من أن الحياة موجودة في مكان آخر، في توظيف ملتو لفهم الفلسطيني للوجود الذي، وبحسب نتنياهو، مرتبط بإيمانه العقائدي الديني البحت، بما هو إيمان بدائي لا عقلاني، وكل ما هو كذلك فهو متعثر في بدائيته ومتوحش. غير أن فلسفة الجسد الفلسطيني الميت، متشابكة بصور الوجود، شكل الوجود قبل انتفائه وانحلاله، وقبل فرض الموت صيغة وحيدة له وعليه. لذلك، يصبح الاهتمام بشكل الجسد بصيغة الاكتمال اهتماما في حد ذاته بالاكتمال في الوجود، الذي يعني اللافناء، فهذا الوجود للفلسطيني لا يفنى بمجرد فناء الفلسطيني الآن وهنا، أو بفناء "هذا الفلسطيني" تحديدا، سيصبح "الفلسطيني" مفهوما بصيغة الفكرة التي تملأ المكان ولا يمكن حذفه منها بصيغة الموت. لذلك لا تفهم ديمومة الإبادة إلا بربطها بديمومة حضور "الفلسطيني" كفكرة مستمرة ومكتملة. على هذا، وبمحاكاة الفكر النيتشوي نفسه، يفك الفلسطيني ثنائية التضاد التقليدية بين الفكرة/ الجسد، بتثبيت أنهما الشيء نفسه، أي أن ما يهم هو الحيوية الأبدية لا الحياة الأبدية. وليعلق نتنياهو/ المستعمر في ثنائيات الجسد/ الفكرة التي تجره إلى دائرة الاحتقار فتفرغه من الروح. وكل مفرغ من الروح ميت، لذا يعيد الفلسطيني رد الداء إلى مصدره، بأن المستعمر أساسا ميت، يبحث عن روح في الآخر ليمتصها منه فيحيا، لذا يتحرك المستعمر بالموت ومن خلاله.
الموت السائل: تخصيص الموت بـ "ناء" الفلسطيني
"أصبح الموت، موتُنا، ليس كافيًا" (بلال إياد عقل- 11 كانون الأول 2023)
سيصبح الموت تعريفا متشابكا فيما لا انفصام له مع الفلسطيني، ومع كل ما هو فلسطيني، فالموت لا يمكن تعريفه إلا بصيغة "ناء" الفلسطيني التي تنطبق حصرا عليه في مسعى لتخصيصه به، فكل تخصيص هو لزوم لا يمكن تعديه إلى الآخر. فرغم الصمت والتحاشي الموحشين اللذين يتعاطى المعظم بهما مع حقيقة الموت عموما بصيغة أنه يحدث للآخرين فقط، إلا أنه فلسطينيا، لا يمكن فهمه إلا بأنه يحدث "لنا"، نحن، وفقط. هكذا تصرخ الأمهات عبر شاشات التلفزة، وينتحب الرجال، وتتردد عبارة "يا وحدنا" (إياد بلال عقل- 9 حزيران 2024). فالفلسطينيون وحدهم داخل بوتقة الموت يعايشونه ويعلنون إفاضته على أجسادهم كطقس اعتيادي: إننا "نغتسل بالنار، بعد النار" (إياد بلال عقل- 5 آذار 2024). وهذا الانصباب للموت باستفاضة روتينية هو ما يحقق صيغة الموت السائل كنموذج يفسر الحياة في فلسطين في غزة.
إن سيولة الموت عمومية شمولية، تجرف المكان بحيث تصبح القيمة المحددة للوجود، وتحدد أن الفرد كان موجودا، فتدرك قيمة الموت بـ "نائها" الفلسطينية، فقيمة الفرد داخل الموت السائل تتحدد، وفقط، بأنه مات، وبصيغة المتكلم تصبح "أنا هو الذي أنا ميت". ستمتلئ وسائط التواصل الاجتماعي بصور الميتين الذي نعرفهم ونتناقل صورهم، بينما هناك آخرون، لم يعرف بعد من هم، ولا كيف ماتوا، وآخرون سينعدم اليقين إن كانوا أحياء أم أموات، ليدخلوا في معامل القيمة صفر. حيث لا يعرف الفرد بأنه هو هذا هو، بخصوصيته كفرد وككائن مستحق للحياة، بل يعرف فقط بعد موته بالبكاء والفاجعة، هذا هو الذي مات، وتدون على الجدران الافتراضية خصاله وإنجازاته، عباراته وأقواله ومأثوراته، تبرز صفة الفردية والاختلاف والتفرد كلها بعد موته فيما يحقق توكيد الذات بالغياب.
وسيولة الموت تجرف المكان، فلا يحتفظ بشكله، ولا تثبتُ الأشياء في حيزها المكاني، بل تتداعى وتتحرك في شكل ركامي، تتكوم لتعطي سيولة الموت شكلا صلبا عيانيا يراه الناظر أمامه ليدرك حركة الموت وحجم سيولته الجارفة. إذ لا يأخذ المكان صفاته من هندسته المعمارية وجهدها، بل من صفات سيولة الموت، فكل ما كان في المكان صلبا متماسكا، سيتحول هشا، ومتناثرا. هي عملية خاصيتها إذابة كل ما يقف في وجه الموت ويعيق حركته فيما يشبه حركة الحمم البركانية التي تصهر كل ما يعترض طريقها وتحوله إلى جزء منها، سيصبح الفلسطيني جزءا من الموت، والمكان حيزه، فتختلف قيمة الأشياء وشكل العلاقات. سيصبح الموت الغراء اللاصق واللاحم، إذ ستتماسك العلاقات بالموت، سيبكي الجار عائلة كاملة لجاره تحت الركام، وبيديه العاريتين من الأدوات يحاول إخراج ما تبقى له منه من تحت الردم. وسيصبح الغرباء أخوة في الموت، فرجل الدفاع المدني سيحتضن طفلة أنقذها توا كأنها طفلته، وستفجع الجريحة بطبيبها الذي لم يعد إلى المشفى كأنها أمه أو أخته أو قريبته. وستزدهر قيمة الأشياء البديهية خلال الموت؛ يصبح الماء المخلوط بالمخلفات عزيزا، وسيكون الطعام المعلب المليء بالمواد الحافظة الأطيب بعد معركة توفيره، أما اللعبة التي اهترأت تحت الردم وتحول لونها إلى الرمادي هي أجمل اللعب.
هو الموت الذي يحدث نتيجة انعدام اليقين في الحياة المستقرة، حيث لا ديمومة في استقرارها إلا في إنتاج خوف يملؤها نتيجة تسارع الموت المتحرك باتجاهها. السرعة هي الاستقرار وليس الثبات والاستمرارية، فالموت السائل سريع، ويجب أن يكون الفلسطيني أسرع منه، أن يسرع في النزوح من مكان إلى مكان قبل قصف ثان، أن يسرع إلى المشفى لربما ينجو من اختراق الشظية لجسده، أن يسرع إلى حيث يتم توزيع المساعدات الإنسانية لعله يكون له اليوم نصيبٌ فيها فلا يموت أطفاله من الجوع. سيكون الفلسطيني في حالة جري مستمر، هاربا من لحظة الموت، مطاردا بها. وكل هروب لا موت اليوم فيه هو بداية جديدة لهروب آخر غدا أو بعد قليل. هي سلسلة من البدايات والنهايات القصيرة والمتسارعة، يملؤها الطرد الوشيك من الحياة، لا تبقي للراكضين ما بينها وقفة لالتقاط الأنفاس والتفكير في معاني القيم والأخلاق، هي أسئلة يتركونها للمتابعين والمتفرجين، أما هم فمنشغلون بتقديم عرض واحد متكرر، تدربوا عليه كثيرا، فيما يشبه بروفات جماعية عامة للموت، حبكته الأولى والأخيرة أن ما يحدث معهم الآن مناف ومتعارض تماما مع القيم والأخلاق كلها. أما المتفرجون فيروون حكايات أخلاقية في ترف المؤسسات والمكاتب تحصنهم من الخوف من الموت بهذه الطريقة المعروضة أمامهم.
بمثابة الخاتمة-البداية: المستعمر المريض..المستعمِر المجنون
"ضلالًا لهذا الموت، من ظنّ نفسه؟" (بلال إياد عقل- 7تموز 2024)
لا يُشبعُ من موت الفلسطيني، فهو لذة استعمارية سادية قائمة على رغبة غير مشبَعة لم تحقق لذّتها القصوى بالفناء التام للفلسطيني فتظل مستعرة تفيض بنقصان مستمر، وتحتاج لإطفائها إطفاء الحياة في أجساد الفلسطينيين. تلك الرغبة في موت الفلسطيني هي بمثابة المرض المزمن الذي لا يمكن للمستعمر الشفاء منه. سيُعالج نفسه بضخ الموت كقوى خارقة للطبيعة يستشفي بها، وما أدواته القاسية وآلاته الجبارة إلا محاولات يائسة للتعافي وبث الروح فيه، والتي لن تكون سوى روح مريضة، وبفقدانها يفقد المستعمر وجوده. ولعله قد حان الوقت لأن يقوم الخاضع للاستعمار بتحليل المستعمِر نفسيا وعقليا، في حركة معكوسة لما قام به فانون. بحيث لا يكون التركيز منصبا على تحليل سيكولوجية الخاضع للاستعمار التي قيل فيها الكثير، وإنما التركيز على فحص عدم سلامة صحة المستعمِر الذهنية واختلال عقله كتركيبة بنيوية تتصف بالجنون الجوهري كمبتدأ لتفسير سلوكه وعنفه، بل وفي نفي لصفة العقلانية عنه، واعتبار المستعمرة مكانا مفتوحا لتجمع المختلين عقليا، وهي في السياق الفلسطيني أكثر تحققا نظرا لسياسات الفصل الجغرافي التي تفصل المستعمِر عن الخاضع للاستعمار بقيود مكانية صارمة، بحيث يكون من السهل تحديد حيزها المكاني. أما الدلائل الأولية البسيطة على جنون المستعمِر الواضح فيمكن تقصيها في تصرفات جنوده، ابتداء من الجندي الذي أهدى ابنته في عيد ميلادها الثاني تفجيرا لأحد المنازل في غزة، فما من عقلية سوية تهدي طفلة تفجيرا؛ أو ذلك الجندي الذي فاجأ خطيبته بكتابة موعد زفافهما المرتقب مع قلبي حب أحمرين على جدار أحد بيوت غزة المدمرة، فما من عقل سليم يرى في الدمار شيئا من الرومانسية، أو ذلك الجندي الذي خلع ملابسه وبدأ في السباحة في بحر غزة، أو الذي سرق غيتار فنان فلسطيني وبدأ بالعزف والغناء فوق الأنقاض، إلى آخره من السلوكيات التي لا يمكن الاستشفاف منها إلا تلك العقلية المريضة المصابة بالجنون.
ولا يتوقف ذلك على ممارسات الجنود بل أيضا يمكن تلمسه على مستوى القادة السياسيين الصهاينة، وليس أدل على ذلك من خطاب نتنياهو الأخير في الكونغرس الأمريكي، والذي كان بمثابة محفل طقسي للتعبير عن الجنون، أو الذهان في أقصى صوره عندما يكون واضحا أمام الكاميرات الخلل في التفكير المنطقي والإدراك الحسي بما ينجم عنه فقدان الاتصال بالواقع عبر خلق سلسلة من الأكاذيب التي يصدقها المصاب بالذهان وحده. وبشكل عام يمكن الادعاء أن "المجتمع الإسرائيلي" مصاب بحالة من الذهان الجماعي مستمدة من أساطير وأكاذيب لا تصمد في وجه التاريخ والحق. وهو ما بدأ يتفكك بعد أن بدأ المستعمَر يتخلص من عقدة الدونية في علاقته بالرجل الأبيض عموما وبالمستعمِر خصوصا وبدأ بتوجيه "عضلاته وأدمغته في اتجاه جديد"، كما قال فانون. ودلائل ذلك واضحة في مقدرة المقاومة في فلسطين وفي الجنوب اللبناني وفي اليمن على إبراز خطاب ندي، تنظيرا وممارسة، يتصارع مع خطاب المستعمر ويتفوق عليه، ويخبره كم أنه مجنون وفاقد لاتصاله بالواقع!