اتّفقتَ معه أو اختلفت، كنتَ من أتباعه أو خصومه، فلا تملك إلّا الإقرار بموهبته الاستثنائية في الخطابة. هو أفضل الناطقين بالعربية في التعبير عن السياسة الإيرانية، وكذلك أكثر القادة مقدرة على تسويق ما يبدو مستحيلاً على أنّه ممكن لدى جمهوره.
يتمتّع الرجل بمخزون لغويّ لا ينضب، يتجاوز به منطق الحسابات السائدة مع قرائن تقنع بأنّ أميركا وإسرائيل والأطلسي أوهى من خيط العنكبوت أمام التصميم والحقّ والإرادة وحركة التاريخ.
ومن يحسب متى يحدث ذلك وكيف؟ ذلك أنّ البلاغة واستعداد الناس للاقتناع يكفيان حتى لإدخال الجمل من ثقب الإبرة، وقرينة القرائن على منطقية طرح السيد نصر الله أنّه بقدراته العسكرية المتواضعة قياساً بقدرات الخصم، ما يزال في مركز اللعبة ومن حقائقها.
خطابه الأخير يستحقّ أن يوصف بخطاب التأبين للشهداء الكبار، الذين قضوا في وقت واحد وفي المكانين الأكثر حساسية ومغزى، لكن كانت للخطاب مهمّة سياسية لا يقوى على أدائها أحد سواه، وهي تفسير وتسويق التريّث في الردّ الذي يتشوّق أنصار الممانعة لرؤيته عاجلاً، وهنا استخدم مصطلحاً تبسيطياً ينطوي على خفّة ظلّ: “التريّث جعل إسرائيل واقفة على رجلٍ ونصف بعدما كانت تقف على رجلٍ وربع”. ولمَ لا تظلّ هكذا ما دام عدّاد القلق وحرق الأعصاب يعمل؟!
طريقة تجذب التّصفيق
في خطابه الهادئ والقويّ، عرض السيّد إنجازات المقاومة التي تجسّدت في ما تعانيه إسرائيل من داخلها، وسرد بالأرقام ما خسرت حتى الآن وما ستخسر لو تمادت في حربها، وما قاله صحيح فعلاً، فهو لا يؤلّف من عنده، بل كلّ ما قاله سبقه في الاعتراف به الإسرائيليون أنفسهم والأميركيون كذلك.
غير أنّه، وهذا ينطوي على بعد تعبويّ فعّال، ألقى ظلالاً كثيفة على الأثمان التي ندفعها لقاء ما تتكبّده إسرائيل من خسائر على جانبنا، وهي باهظة بميزان الثقل والأرقام.
"في خطابه الهادئ والقويّ، عرض إنجازات المقاومة التي تجسّدت في ما تعانيه إسرائيل من داخلها، وسرد بالأرقام ما خسرت حتى الآن"
السيّد لا يُنكر ذلك ولا يلغيه من الحساب والخطاب، إلا أنّه يفسّره بطريقة تجتذب التصفيق والهتاف، مستنداً إلى تراث التضحيات التاريخية الكبرى، التي قُدّمت وما تزال.
السيّد نصر الله، وهو الرمز الأكثر سطوعاً لمعسكر الممانعة والمقاومة، تطابق في التحليل مع الرموز الأكثر اندماجاً في الخيار الآخر المختلف، خيار المفاوضات والسعي إلى الحلول السياسية، إذ لا فرق بين خطابه في أمر التسوية، وخطاب محمود عباس والسيسي والملك عبد الله بن الحسين، الذين قالوا في السياستين الأميركية والإسرائيلية في هذا الشأن أكثر بكثير ممّا قال مالك في الخمر، غير أنّ نقطة الاختلاف معهم هو عدم استعدادهم لقبول دعوته إلى اليأس من رهانات التسوية، والذهاب إلى رهانات مغايرة، وكأنّ حسابات الدول يمكن أن تكون نسخة طبق الأصل عن حسابات الميليشيات.
اليأس من التّسوية
ببراعة بلاغيّة سوّق السيّد التشابه معهم في تقويم الأداء الأميركي والإسرائيلي في أمر التسوية، إلا أنّه اختلف جذرياً في الخيارات، فهو يخاطب قوماً لن يذهبوا إلى الحرب حتى لو كان السلام مستحيلاً.
السيّد حسن نصر الله لا ينكر أبداً صعوبة الحالة المفروضة عليه وعلى بلاده وحلفائه ممّن يتّفقون معه أو يختلفون، وقد وجد تفسيراً منطقياً لموقف سوريا وإيران ويريده أن يكون مماثلاً بالنسبة للأردن ومصر وغيرهما باستخدام لهجة غير مباشرة بل مخفّفة ومكوّنة من جملة تعبوية قصيرة: “إن لم تقفوا مع المقاومة فلا تطعنوها من الخلف”.
ردّ الدول التي لا تتّفق معه أنّها تتبنّى الهدف وتختلف على الوسيلة، وذلك لا يعني طعناً في الظهر، وتراه اجتهاداً في الحفاظ على المصالح وامتثالاً لموازين القوى.
"ببراعة بلاغيّة سوّق السيّد التشابه معهم في تقويم الأداء الأميركي والإسرائيلي في أمر التسوية، إلا أنّه اختلف جذرياً في الخيارات"
أتابع خطابات السيّد حسن نصر الله ليس بغرض الاقتناع بما يقول، فالأمر ليس بهذه البساطة، لكن للاطّلاع على قوّة اللغة المعزّزة بسلاح قليل أمام السياسة المعزّزة بسلاح ثقيل، وإذا ما أردت تقويم ظاهرة السيد نصر الله، الخطابية والسياسية، فلا بدّ أن تنظر إليها من خارج حالة الانبهار بها، أي من موقع ترى فيه الأمور بموضوعية أوضح وأصحّ.
الخلاصة في تقويم ظاهرة السيد نصر الله أنّه ينبغي تجنّب القاعدة التي وضعها الإمام الشافعي وما تزال تحكم المزاج العربي في أمر الموالاة والمعارضة، وذلك في بيت الشعر الذي قال فيه:
“وعينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ
ولكنّ عينَ السخط تبدي المساويا”.
فليحمنا الله من عين الرضا العمياء وعين السخط الأكثر عمىً.