الإثنين  16 أيلول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

المحاكاة في ثورة إيران/ بقلم: توفيق العيسى

بين رمزية الرواية والمذهب.. خافوا من التشيع فذهبوا إلى التصهين

2024-08-12 06:03:27 PM
المحاكاة في ثورة إيران/ بقلم: توفيق العيسى
توفيق العيسى

من منا لم يسمع أو يحفظ كاسيت الشيخ إمام " ثورة إيران" كلمات الشاعر الفاجومي أحمد فؤاد نجم، ألحان الشيخ إمام وغناؤه بمشاركة الفنانة عزة بلبع.

 الحصول على كاسيتات الشيخ إمام كانت تعتبر معجزة في عقود مضت، وكانت تحيطه أجواء من السرية تماما كتوزيع جريدة الحزب أو بياناته سابقا على امتداد الأراضي العربية، في فلسطين وتحديدا في مخيم الفارعة كان تداول أغاني الشيخ إمام أمرا طبيعيا في ظل حالة ثورية حاضرة وممتدة، لكنه محفوف بالمخاطر، فعندما كانت تشعر جدتي بتحركات غريبة ينتج عنها حملة مداهمات إسرائيلية، كانت تدس هذه الأشرطة في الأرض بجانب شجر حاكورتها أو في أصاص الزرع.

لم تكن أغاني الشيخ وحدها هي الممنوعة والمطاردة في الدول العربية وفلسطين، بل امتدت إلى كل عمل فني وأدبي يندرج تحت مفهوم "المقاومة" أو مناوئة السلطات، من مظفر النواب إلى شعراء فلسطين وحتى مارسيل خليفة وفرقة العاشقين وغيرهم كثيرون، مع استثناء الكويت نسبيا من مسلسل المنع والمطاردة، بسبب منحها حرية العمل السياسي للتنظيمات الفلسطينية، وكانت هذه الأعمال الفنية والأدبية مادتها الأدبية والتحريضية.

 ومن المفارقات، عندما دخلت بعض الدول عصر الديمقراطية وسمحت ببيع ونشر أعمال درويش ومظفر النواب، ظلت أشرطة الكاسيت ممنوعة، فقد نسي المشرع القانوني أن يمنح الحرية للأشرطة كما منحها للكتب.

أما الخميني فقد استخدم من منفاه بباريس أسلوب التسجيل الصوتي الكاسيت لدعوته وتحريضه على نظام الشاه، وبات يعرف هذا الأسلوب بأسلوب الخميني، فهو كان يعي تماما أنه مهما اجتهد في الكتابة فلن يصل صوته إلى عموم الشعب من الأميين، وسيقتصر على نخب محددة، الأمر الذي استدعى الأمن الإيراني في زمن الشاه إلى ملاحقة شريط الكاسيت، خوفا من ظهور عمامة الخميني من خلاله.

عندما كتب نجم ديوانه "ثورة إيران" وغناها الشيخ إمام، في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، لم تكن بمثابة تأييد أو ولاء مطلق للثورة بقدر ما كانت محاكاة للثورة الفلسطينية وانتفاضة يناير المصرية في عهد السادات 1977، في قصيدة "آه يا خي": 

 

آه يا خي وآه يا خي

كنا نملا الدنيا ضي

بس آه لو كنا زي

ألف آه وآه ياخي

كنا لو كان الخميني عمنا

والمعارضة يد واحدة عندنا

دسنا شاهنا وأمريكانه بنعلنا

وابتدينا الثورة من أوسع طريق

كان تمنتاشر يناير في الشوارع لسة حي

بس آه لو كنا زي

ألف آه  وآه ياخي. 

 

كما كتب أيضا: 

إيران يا مصر زينا

كان عندهم ما عندنا

الدم هو دمنا

والهم من لون همنا

تمسك ودانك من قفاك تمسك ودانك من هنا

الخالق الناطق هناك

الناطق الخالق هنا.

 

وصولا إلى السخرية من الموقف الأميركي الذي باع حليفه الشاه في قصيدة "يا كارتر يا ندل"، والمماثلة بين الشاه والسادات من جهة ومن جهة أخرى تنبؤ بمصير السادات التي ستتخلى عنه أميركا لاحقا.

الشيخ والشاعر وسيتبعهما فيما بعد الفنان المصري عدلي فخري، أقاموا عرسا عربيا تقدميا مع ثورة إيران، على الرغم من طابعها المذهبي الذي بات يطفوا إلى سطح الثورة، خاصة بعد إعدام التقدميين في إيران على يد نظام الثورة، وتصدير الثورة ببعدها المذهبي والحرب العراقية الإيرانية فيما بعد، التي رفضها الحزبان الشيوعيان العراقي والإيراني.

وكتب نجم في حينه مبشرا بتوافق الرؤى مع الثورة كثورة وليس مذهب ومعبرا عن أزمة الولايات المتحدة بقوله  في قصيدة الهلوسة:  

أنا متأسف     جداً   جداً

عندي سؤال متلخفن جداً

أيها  واحد     لو  يجاوبني

انا متشكر          جداً جداً

كلنا  طبعا       نعرف جداً

ان خمينى     الجامد جداً

بعد الثورة  وكشف العورة

قال بالصوت الواضح جداً

إن مفيش    لعصابة بيجن

ولا  بتروله        لما حتدن

 

كلنا برضك      نعرف جداً

إن  خمينى    الجامد جداً

أعلن هذا       قوللى لماذا

قالك    ثورة شعب  إيران

ملك الشعب العربى  كمان

والمستقبل     غير الفايت

يعنى التار العربى  البايت

يتاخد  أبا  عن جدا

كلنا أيضا      عارفين جداً

إن  مناحم      حيص جداً

واتفتحت  ف رقبته قزازة

واترسمت لعصابته  جنازه

واتبعتر          هو وأعوانه

واتخضت  أمريكا   عشانه

واتهزت      واترعبت جداً

ودا كان هايل    جداً جداً

زي الشئ التافه        جداً

طلع  الشاهنشاه    الكورو

اتكرع      جيص من زوره

عايز  يثبت  ليهم     دوره

إنه عميل      ومعفن جداً

وده كان واضح  جدا جدا

على  حين              فجأة

قال الشى       التافه جداً

قصده  يطمن بيجن  جداً

إنه بتاعه       وملو دراعه

ضد خمينى   الجامد جدا

والبترول ياخدوه    من سينا

والمركب ترسي  فى مراسينا

وإحنا اخوات  وبتوع بعضينا

وحنتمنجه             جداً جداً

من غير  صهيونى    ما يدن

ممكن اسأل            جداً جداً

يبقى الشئ التافه          جداً

خاين    جداً      جداً      جداً

ولا مهلوس            جداً  جداً؟

أنا متشكر              جداً جدا.

 

لم تكن جدتي لتعرف أن من الأغاني التي خبأتها في رحم حاكورتها، أغان ستتهم بالطائفية،  وأنها ترويج تقدمي لرواية الاثنى عشرية ومصالح نظامها في المنطقة،  أو أنها ستستخدم كلاهوت تحرر جديد حسب تعبير الكاتب والباحث الكبير حسن خضر وأنها ستوازي رواية اشتراكية أبو ذر الغفاري، فكل ما عرفته أنها أغان وطنية، ولعلي أرى ابتسامتها الآن وهي تخفي أغاني الشيخ المزعجة للاحتلال، وكفاها ذلك لتبتسم قليلا في وجه المخاطرة.

الشيخ ونجم وعدلي فخري وغيرهم استبشروا بسقوط نظام متحالف مع الولايات المتحدة بطريقة صادمة ومفاجئة تماما كسقوط سايغون في العام 1975، وهزيمة ثلاثي العدوان أميركا فرنسا بريطانيا فيها ضمن تسلسل الحروب المتتالية لإخضاع فيتنام من الدول الثلاث تباعا.

فكتب الفاجومي وغنى الشيخ في رثاء هوشي منه رائعتهما " يادي العجب يا رجب" وقبلها رثاء  جيفارا إلى قصيدة "أبجد هوز حطي كلمن 

افتح صفحة إمسك قلمن

أكتب زي الناس ما بتنطق

سقطت سايغون رفعوا العلمن".

وغنينا جميعا معهم، يا فلسطينية فيتنام عليكو البشارة 

والنصرة طالعة من تحت مية ألف غارة

والشمعة والعة والأمريكان في الخسارة

راجعين حيارى عقبال ما يحصل معاكو". 

وكما كانت أسماؤنا في ملف مشروع آيزنهاور تحت مسوغ محاربة الشيوعية، ظهرت في خضم الأغاني والأدبيات، ومشاهد اقتحام السفارة الأميركية في طهران ورفع العلم الفلسطيني عليها، مشروع محاربة التشيع، والتخوف منه.

وبدأ الحذر من استخدام تلك الأدبيات، واعتبرت مقدمة للتشيع، حتى وإن كان محرمو هذه الأغاني يعرفون أنها ليست تشيعا بقدر ما هي محاكاة وانحياز لإسقاط نفوذ أميركا في المنطقة، وفي المحاكاة سيظهر الموروث الثقافي العربي الإسلامي في سرد وقائع كربلاء والانحياز إلى الحسين مظلوما وثائرا، وهذه إن كانت أساس الرواية الاثنى عشرية بشكلها المذهبي، إلا أنها ملحمة شعبية وتاريخية معا في هذه المنطقة، وليست نتاج التشيع السياسي، فأسطرة الحدث عمل مغر لكثير من الرواة حتى وإن لم تجانب الحقيقة. ومن هنا كتب الشاعر والمسرحي والمفكر المصري عبدالرحمن الشرقاوي رائعته المسرحية "الحسين ثائرا الحسين شهيدا" التي حاول إخراجها الفنان المصري المنحاز فلسطينيا كرم مطاوع وبطولة مجموعة من خيرة فناني مصر على رأسهم المبدع عبدالله غيث.

إلا أن الأمرين لديهما واحد فالأغاني المقاومة لم تكن بأقل خطرا من مفهوم التشيع السياسي في المنطقة، فكلاهما سيصبان ضد مصلحة معظم الأنظمة وأمريكا وبالتالي مستعمرتها في تل أبيب.

وأغرقت المنطقة في دعاوى وتهم التشيع والتبشير المسيحي في إطار التلويح بحروب أهلية على أساس ديني ومذهبي ومن ثم الاستقطاب الشيوعي، الذي تجلت مجابهته بدعم الجهاد الأفغاني ضد النظام السوفيتي كامتداد لمشروع السلف عند آيزنهاور لضرب نفوذ عبدالناصر في المنطقة، وتحديدا لبنان، لتشمل حركات التحرر الوطني عالميا.

خلق البعبع كان لا بد منه، وإيران ذاتها لم تكن بريئة، فقد ساهمت في تأكيد المخاوف عبر صيغتها التصديرية، إلا أن المبالغة الهوليودية كان لا بد أن تكون حاضرة في المشهد، فالمنطقة ليست أحادية الهوية الدينية أو المذهبية من قبل ظهور أمريكا وأوروبا وإسرائيل والنظام الإيراني والأنظمة العربية.

لذلك كان التماهي مع الثورة الإيرانية فنيا، كالتماهي مع الثورة الكوبية وجيفارا ومن ثم فيتنام وهوشي منه وحتى أنغولا، التماهي مع الثورة والتحرر وليس المذهب.

وردا على الفتنة كتب نجم في الديوان ذاته كاشفا لماذا الفتنة الطائفية بقوله: 

دة شيعة واحنا سنة

دا فين ومصر فين

عايزين يدخلونا نظام ودنك منين

وناس تقول شيوعي

وعامل نفسه شيعي

عشان خايفين طبيعي ليبقوا ثورتين

يا اسيادنا اللصوص

قرينا في النصوص

لو الإنسان يلوص

تغور الفرقتين

وشوفنا في الكتاب

لقينا الدين حساب

وثورة وانتساب وعين تساوي عين

سرقتوا الثورة منا

وقلتوا الصبر منه

وآخر الصبر جنة وباب بمفتاحين

وكفرتوا الإمام وطفشتو الحمام

خلاصة الكلام

يزيد ولا الحسين؟!! 

وفي ظل حرب التخوفات تلك، لم يزل البعض يمارس عملية التخويف من التشيع دون أن يلحظ مراحل التصهين التي مرت في المنطقة، وكيف مرت، وأصبحت مظهرا احتفاليا، ومناسبة تجمع فنانا عربيا بمغنية إسرائيلية، يتغنيان بالسلام وبحتمية المشروع الصهيوني.

 مثلما كانت لنا أدبياتنا التي جهدنا في صياغتها لعقود، كانت لهم أدبياتهم لا شك،  التي مررت ثقاقيا واقتصاديا، وإلا فما التفسير الحقيقي لحالة الانكباب على التصهين في المنطقة؟!  وهي تتعدى التطبيع السياسي بمراحل، وقد لا أبالغ إذا قلت إن التطبيع السياسي طفل صغير مقابل حالة التصهين. 

فإذا احتاج شعبي الأردن ومصر لسنوات حتى يظهر فيها من يجيد العبرية بعد عمليتي السلام، فإن دولا أخرى كانت لديها نخبا جاهزة تتقن العبرية من قبل التطبيع السياسي، وليست بحاجة لوسيط يترجم لها، ولا يشرح لها كيفية الرقص على أنغام الهاتيكفا.