الخميس  21 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الرد الإيراني اللبناني| بقلم: ناجح شاهين

2024-08-14 02:02:06 PM
الرد الإيراني اللبناني| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

جسدت غزة الشهيدة/الشاهدة ومقاومتها الخارقة لقوانين العقل والمنطق مجهراً ومقراباً للواقع لا سابق له من ناحية قدرته على كشف الوقائع بدون مستحضرات التجميل التي يتفنن أبناء الشمال في إعدادها على شكل "طبخات" ايديولوجية أو حتى معميات بصرية وسمعية تصم الآذان وتزغلل العيون في وقت واحد.

كشفت مواجهة غزة عجز إسرائيل عن حماية نفسها إلى الأبد، كما أثبتت  قدرة الشعب الفلسطيني على اجتراح معجزات الكفاح والصمود في وجه قوة عاتية تمتلك مقدرات الجيش الأقوى في تاريخ البشرية ألا وهو الجيش الأمريكي.
بطشت إسرائيل بغزة على نحو يماثل أشد أنواع الوحشية التي شهدها العصر الحديث بما في ذلك ممارسات النازيين في وارسو وغيرها، وقصف طائرات الحلفاء لبعض المدن الألمانية في الحرب ذاتها، ووحشية اليابانيين في الصين، وأخيرً وفوق ذلك كله وحشية أمريكا في الفلوجة وشمال العراق على السواء.

كان المتوقع من منظور فئات المتفائلين العرب والفلسطينيين ممن يبتاعون سلعة حقوق الإنسان ذات المنشأ الأورو/أمريكي أن يتحرك العالم ضد قتل الأبرياء من أطفال ونساء ورجال، وتدمير سبل حياتهم على نحو نسقي منهجي وثابت وواضح. لكن الغرب الاستعماري برهن أنه فوق اللغة الخطابية بأنواعها، وأن تحليل القول والخطاب متروك لما بعد الحداثة والتفكيك وخبراء تحليل النص والمحتوى، أما رجل السياسة فهو واقعي تماماً على طريقة الواقعية الأمريكية في السياسة المقارنة والعلاقات الدولية التي تؤمن أن الدنيا غابة يفوز فيها الذكي/الشجاع (=المتوحش) الذي لا يتردد في سفك الدم لحظة واحدة من أجل تحقيق المصلحة حتى لو كانت صغيرة أو ثانوية.

هناك فرصة لا يستهان بها لتطهير فلسطين كلها وتحويلها إلى بقعة يهودية/بيضاء بالكامل دون اقتطاع جزء منها لتكون معزلاً أو محمية للهنود الحمر العرب، وهذه الفرصة لا بد من اغتنامها وتجربتها حتى النهاية لعلها تثمر بالفعل شجرة أوروبية  مثل أمريكا في أرض الميعاد الأصلية.

صمدت غزة كما أسلفنا صموداً أسطورياً لا نهاية له، وهو ما عقد الأمور في وجه العالم الغربي راعي المبادئ الآيديولوجية الحقوقية والديمقراطية بأنواعها، فكان لا مفر من بعض التحركات الاستعراضية والتمثيلية للتظاهر بأن ما يجري غير مقبول، لكن الأفعال ظلت على حالها من ناحية تزويد إسرائيل باحتياجاتها كلها في مواجهة أعدائها الفلسطينيين ومسانديهم اللبنانيين واليمنيين. بل إن الاستعمار العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة قام مباشرة بتوجيه الضربات إلى أنصار الله في اليمن وإلى فصائل المقاومة العراقية ليعلن على الملأ أن الحرب مع إسرائيل هي حرب مع أصحاب المشروع الصهيوني الأصليين وهم الولايات المتحدة وغرب أوروبا.

لقد قامت المقاومة في غزة بعملها المميز في السابع من تشرين من أجل أن تردع إسرائيل عن مواصلة نهب أراضي الضفة بغرض الاستيلاء الكلي عليها في نهاية المطاف، وقد كان قرارها ضرورة تمليها الوقائع على الأرض، وكان بإمكان الإنجاز الكبير في ذلك اليوم والأسابيع القليلة التي تلته أن يردع إسرائيل نهائياً عن أحلامها المهووسة في نهب فلسطين حتى آخر شبر. لكن الملحمة المستمرة منذ عشرة أشهر كشفت عن حالة إحباط وابتعاد عن التسيس تسود البلاد العربية في مستواها الشعبي، أما في المستوى الرسمي فإن هناك تعاوناً صريحاً ومعلناً مع الكيان تبديه الدول "المعتدلة" جميعاً. ولكن عنصراً أشد أهمية أدى دوراً هاماً وحيوياً في خدمة إسرائيل، وذلك هو استمرار انفراد الولايات المتحدة بوصفها القوة المهيمنة في أرجاء الدنيا كلها، وربما نتجرأ على القول بأن القوة الأمريكية أصبحت أكثر بريقاً بمقدار أو بآخر بسبب ضعف الأداء الروسي في المواجهة في أوكرانيا وصولاً إلى حالة "حرب الخنادق" سنة 1916 أو حرب العراق وإيران طوال حقبة الثمانينيات. وقد جاء الاختراق الأوكراني منذ ثلاثة أيام لكوربسك ليطم الوادي على قرى القوات الروسية ويشكف للقاصي والداني أن روسيا أبعد بكثير مما تخيل سكان الأرض عن مستوى الدولة العظمى الكونية، وأنها دولة إقليمية مهمة في أحسن الأحوال. من ناحية أخرى ما تزال الصين محجمة عن التقدم لأداء دور عسكري نشط حتى في مجالها الحيوي بحر الصين وتايوان. 

في هذه اللحظة جاءت ضربة نتانياهو المحكمة باغتيال هنية وشكر في طهران وبيروت، أقوى وأهم معقلين من معاقل "محور المقاومة". الرسالة الإسرائيلية/الأمريكية واضحة لا لبس فيها: إذا ردت إيران أو المقاومة اللبنانية رداً جدياً، فإن حرباً ستقع تكون أمريكا وربما حلف الأطلسي طرفاً فيها لفرض شرق أوسط جديد طالما حلم به الأمريكيون منذ جورج بوش وكونداليزا رايس على الأقل؛ أما إذا أرادت إيران والمقاومة تجنب المواجهة الواسعة فعليهما أن يقبلا بالصفعات الإسرائيلية كما تفعل حليفتهما سوريا ويستسلمان لواقع الهيمنية الإسرائيلية الكاملة على المنطقة وترك غزة تغلي داخل طنجرة الضغط الإسرائيلية حتى تنضج أو تتفتت إلى قطع لا تبصرها العين. بعد ذلك ستكمل إسرائيل مشروعها الاستيطاني التطهيري المولود صراحة في العام 2017 لينجز نهائياً وحدة أيرتس يسرائيل تحت سيادة الدولة العبرية من البحر إلى النهر بهوية يهودية خالصة لا شية فيها.

يدرك الإيرانيون واللبنانيون واليمنيون والفلسطينيون من فريق المقاومة قياس الإحراج المرعب أعلاه، ويحاولون اللعب ما أمكن بورقة عدم الرد في مقابل أن توافق إسرائيل على وقف النار والانسحاب من غزة، ولكن إسرائيل على الأرجح لن تفعل ذلك لأنها تعلم أنها قادرة برعاية صناعها في أوروبا وأمريكا على هزيمة إيران ولبنان ومسحهما من الوجود. وهكذا تجد القوى المقاومة نفسها بين مطرقة طبول الحرب التي تتجاوز قدراتها أو الاستسلام الذي يعيدنا إلى لحظة ما قبل السابع من تشرين أو إلى لحظة أشد سوءاً. يظل احتمال المفاجأة "التاريخية" وارداً دائماً، وقد برهنت المقاومة اللبنانية أكثر من مرة على قدرتها العجيبة على اجتراح أفعال شجاعة ومبدعة، ولكن الدقة في قراءة المعطيات الظاهرية على الأقل تقتضي القول بأن هناك معضلة حقيقية تحتاج إلى إجابة سريعة وفعالة.