هو من موالد الثلاثينيات، وحين وقعت النكبة في العام 48 كان وأبناء جيله يفتشون عن الطريق، بعضهم اختار ما كان متاحاً أمامه.. تشكيلاً دينياً أو وطنياً أو قومياً، وكان أن اختار الشاب فاروق القدومي حزب البعث العربي الاشتراكي، ليضع مع كثيرين من أبناء جيله لبنة فلسطينية في البناء الواعد.
انتشرت فكرة البعث، وانتظمت في حزب تمكن من حكم بلدين عربيين أساسيين هما سوريا والعراق، وكاد يحكم في بلدان أخرى.
غادر القدومي حزبه الأول، إذ ليس له ولع بأن يكون شريكاً في أي حكم، لم يذهب إلى فراغ، كانت فكرة الانبعاث الفلسطيني تتبلور وتتعمق، في فكر وسلوك فلسطينيين اجتهدوا بإنتاج تشكيل وطني خالص، فوجد الشاب فاروق القدومي ضالته، إذ صار مؤسساً في الحركة الوليدة.
كان شريكاً في المخاض الصعب، وحين قرر الاندماج المطلق في “فتح” كان قرر بوعي أن يحتفظ بفكرته القومية حيث البحر الواسع الذي يحمل الزورق الفلسطيني إلى شاطئه المنشود.
نجح القدومي وعرفات والوزير وخلف والحسن والنجار وغيرهم من المؤسسين، في جعل حركتهم الوليدة مصباً لكل الأنهار التي نبعت من أرض النكبة فانطلقت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، كطليعة لثورة وطنية تأخرت ولادتها قليلاً إلا أنها جاءت أخيراً لتملأ فراغاً عجز غيرها عن ملئه.
كان فاروق القدومي واحداً من الذين حازوا على مكانة المؤسس في حركة فتح، تلك الحركة التي وضعت قاعدة ذهبية تجسد الانتماء العميق والوحيد لها… “فتح لمن صدق” أمّا القدومي ورفاقه المؤسسون، فقد حازوا على الاثنتين، فقد سبقوا وصدقوا.
اتفق المؤسسون على فتح أبواب حركتهم أمام كل من يحتفظ بفكرته ويجسد ولاءه للحركة التي أقسم يمين الولاء والانتماء لها، وكان فاروق القدومي نموذجاً لهذا النمط من الرجال.
كان من أوائل الفتحاويين الذين تبوءوا المواقع الرئيسية في منظمة التحرير، حين تحولت إلى إطار جبهوي يضم كل الفصائل والقوى السياسية والاجتماعية والوطنية، سُمي عضواً في اللجنة التنفيذية ورئيساً لدائرة التنظيم الشعبي، وهي الدائرة الأهم في حينها بحكم مسؤوليتها عن جميع النقابات والاتحادات الفلسطينية، التي شكّلت أحد أهم قواعد منظمة التحرير، ونظراً لثقافته الواسعة وتأهيله الأكاديمي رفيع المستوى، وتمكنه من اللغة الإنجليزية فقد أُسندت إليه مهمة قيادة الديبلوماسية الفلسطينية التي كانت تشق طريقها بصعوبة، ولكن بكفاءة فوق حقول ألغام معادية ومشككة، قاد القدومي الديبلوماسية الفلسطينية محرزاً نجاحات ملفتة، وفي عهده رعا أهم جيل ديبلوماسي فلسطيني، فتح العالم كله أمام الحق والعدالة… سعيد حمامي، وائل زعيتر، عز الدين القلق، محمود الهمشري، نعيم خضر، وهذه الكوكبة التي عملت تحت قيادته كوزير لخارجية القضية والثورة، سقطت كلها برصاص من عملوا على إطفاء نور دعوتهم ورسالتهم ونجاحاتهم.
طيلة مهمته الصعبة والحيوية والمجيدة تكرس القدومي أبو لطف، نجماً لامعاً في سماء الديبلوماسية الفلسطينية والعربية والدولية، تعرفه أروقة الأمم المتحدة، بصولاته وجولاته، متحدثاً لبقاً ومقنعاً بلسان قضية شعبه، وتعرفه مؤتمرات عدم الانحياز والقمم العربية والافريقية والإسلامية، كان يجسد التوأمة التي لا تنفصل عُراها، بين فعل البندقية العادلة ورمزها زميله ورفيقه ياسر عرفات، وبين الديبلوماسية المستنيرة التي تفتح الأبواب وتستقطب الأنصار والمؤيدين والداعمين.
في حياتنا الفلسطينية وفي فتح بالذات، تكرست قاعدة حمت وحدة الحركة وضمنت حق الاختلاف والمعارضة وحين ذهب القوم إلى التسوية تحت عنوان أوسلو اختلف القدومي مع شركاء التأسيس والمسيرة الطويلة، غير أنه التزم بالقاعدة الذهبية التي تأسست فتح ونمت وتطورت على أساسها، وقوامها “من حقك أن تختلف وليس من حقك أن تغادر البيت”.
وكيف يغادر وهو الذي شارك في بناءه لبنة لبنة، وشارك في ملكيته والسكن فيه، وفي حقبة الاختلاف مع الشركاء المؤسسين، قال القدومي ما كان يقتنع به، ولكنه لم يغادر الحدود التي تضمن وحدة الحركة والمنظمة.
إقرأ أيضاً: عبّاس… الممرّات المغلقة إلى غزّة
توفي القدومي عن أربع وتسعين سنة، سبقته بشهور قليلة رفيقة حياته المناضلة نبيلة النمر أم لطف، بكاه كل من عرفه وكل من عمل معه، وحين يقرأ الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد كتاب فلسطين الذي سجل سيرتها ومسيرتها، فسوف يروا اسماً مضيئاً لامعاً لا يخفت بريق ولا يزول.. فاروق القدومي أبو لطف.