"إننا لا نكتب عند درجة الصفر. إننا مولودون في درجة الغليان. [...] إننا نكتب في درجة الغليان."
محمود درويش
في خضم هذا التسارع المحتدم للأحداث والوقائع المستجدة آنيا في ظل حرب الإبادة في فلسطين في غزة، سيصطدم المراقب دائما بسؤال التفكير في الحدث: حدث يقع بسرعة فائقة يتلوه حدث آخر بسرعة أعلى في متوالية من الأحداث المتنافسة في سرعتها، بينما كل حدث منها هو واقعة بحد ذاتها، تخلط امتدادات الزمن التاريخي القصير والمتوسط والطويل، بحيث يصعب تقعيدها في زمنها الصحيح للتفكير فيها. وسيأتي سؤال "كيف يمكن أن نفكر في فلسطين؟" مرتطما دائما بمعضلة أساسية وهي أن هذا التفكير محكومٌ دائما بشروط قبلية وآنية معا -والتي هي ليست استثناء- لكنها في حالة من التسارع والحركة اللامستقرة التي تعيق تحول التفكير إلى تَفكّر في الأحداث، فتُوسَم عملية التفكير بأنها دائما تغلي، ليكون التفكير في فلسطين محكوما دوما بالتفكير عند درجة الغليان، تماما مثلما يولد الفلسطيني في درجة الغليان المستمر، كمُسلّمة أولى، كما عبر درويش، لتوجب هذه الولادة القسرية تفكيرا في خليطها الوجودي مستمدا من درجة الغليان التي تحكمها كامتحان مستمر لا يمكن تجنبه، بل هو حتمية قائمة تستمد تحققها من سؤال مؤلم ومتوحش: "هل الفلسطيني موجود ليُفكّر أو ليُفَكَّر فيه؟". ولأن التفكير محكوم دائما بالسؤال فإن هذه المقالة تتوسم الإجابة عن سؤال التفكير في فلسطين عند درجة الغليان بالتدرج نحو أربعة مستويات للتفكير: التفكير في الفلسطيني كدرجة غليان أولى، والتفكير في فلسطين كدرجة غليان ثانية، والتفكير في حكاية فلسطين والفلسطيني كدرجة غليان ثالثة، أما مستوى التفكير الرابع فهو في التفكير في كيفية الخروج من درجة الغليان هذه.
درجة الغليان الأولى: الفلسطيني إنسانا عالميا على درب الخلاص الإنساني
تنبع حيرة مستوى التفكير في الفلسطيني وجودا وتغييبا من علاقته بالتفكير بفلسطين أرضا كسؤال إشكالي لا يمكن فض اشتباكه عن سؤال اليهودي-الصهيوني الذي لا يحقق يهوديته الكاملة إلا باستملاكه أرضا تحقق شرط هويته ووجوده المكتمل. فإذا كان اليهودي الأوروبي أصبح اليوم مواطنا إسرائيليا لتحقق شرط الأرض بإقامة الدولة الإسرائيلية عام 1948 فوق أرض فلسطين التاريخية، فإنه في المقابل حدث نفي وتغييب لوجود الفلسطيني بسلبه حق تحقق شرط الدولة والأرض. بهذه الطريقة يُصاغ التفكير في فلسطين والفلسطيني، بعيدا عن الخضوع لشرط الاستعمار كشرط نافٍ للفلسطيني والذي يُختزل بصيغة احتلال لأجزاء تبقت من فلسطين التاريخية. وعلى هذا المنطق من التفكير يُصارع المستوى الرسمي الفلسطيني عندما يفكر في فلسطين باتجاه تحقيق شرط الدولة لتحقيق اكتمال وجود الفلسطيني باعتبار الدولة هي الصيغة الوحيدة المتممة للفلسطيني. أما الغائب في سياق التفكير في فلسطين والفلسطيني رسميا ودوليا، هو احتكام شرط التفكير بفلسطين والفلسطيني لإطار التفكير الغربي لشكل تحقق الوجود والاعتراف بهذا الوجود، بحيث وضعت الدولة في مواجهة التحرر كنقيض لا يتمم أحدهما الآخر، وتم سحب التحرر عن أدواته وميكانزماته وتحويله إلى بلاغة رسمية خطابية مليئة بالمجاز الذي يفيد التجاوز.
وعندما تتم الإحالة إلى الفكر الغربي كمرجعية لشكل الكيانية الفلسطينية على صيغة دولة، سيقع المستوى الرسمي الفلسطيني في المعضلة المزمنة التي وقعت فيها الدول العربية التي تم تعميم نموذج الدولة-الأمة عليها كإسقاط وليس كاستجابة لحاجاتها أو بنيتها المجتمعية فظلت تعاني من تبعات ما بعد الاستقلال إلى يومنا هذا نتيجة اختلال المعادلة ما بين المشكلة والحل. ففي الوقت الذي كان فيها اختراع نموذج الدولة- الأمة في نهايات القرن السابع عشر اختراعا عبقريا يحل مشاكل أوروبا السياسية والاجتماعية ويضع حدا للصراعات والحروب التي استنزفت القارة حينها، ويجعل من أوروبا مركز العالم تفكيرا ومعرفة، فقد تم فرض هذا النموذج خارج سياقه وتعميمه كنموذج كوني وحيد قابل للتطبيق في كل زمان ومكان مع نفي وإقصاء للتشكيلات المجمتعية والسياسية كما البنى المعرفية التي كانت قائمة خارج أوروبا من هذه المعادلة تماما. بحيث لم يعد العقل العربي قادرا على التفكير خارج أطر هذا النموذج رغم أنه بدأ يثبت فشل استجابته لمشاكل الإنسانية المعاصرة يوما تلو الآخر.
وليس العقل الرسمي الفلسطيني استنثاء، فهو ما زال يصيغ رؤيته لتحقق وجود الفلسطيني وفق هذا النموذج رغم الخصوصية المضاعفة للحالة الفلسطينية التي تخضع لطبقتين من التغطية الإعمائية، الأولى بفعل خصوصية الحالة الاستعمارية، والثانية خصوصية المسألة العربية. غير أن اللافت في الأمر أن العقل الفلسطيني اللا رسمي، ما زال غير قابل للخضوع لمبدأ تنميط التفكير وجعله يفكر على هذه النغمة الكونية، لأن المشكلة التي يعاني منها الفلسطيني ما زالت لا تجد حلها في شكل هذا التفكير، بل ترى فيه سببا لشلّ التفكير في مشكلتها. فالتشويه الذي أريد له أن يطال تفكير الفلسطيني في نفسه، وفي ذاته، وفي مَن يكون، خلق حالة عكسية ارتدت نحو الالتصاق بفطرة الفلسطيني الأول، الذي لم ينبذ فطرته السليمة عن ذاته، لذلك يظل يعود إلى ذاكرته بكل ما تحمله من إرث عما كان، فيلتصق أكثر بقصص غسان كنفاني، ويتسلل للسباحة في بحر يافا، وينتج فيلما عن معنى أن يسكن في بيتك عدوك، ويكتب شعرا عن حرب الإبادة المستمرة منذ 76 عاما ويشهدها تكرارها أمام عينيه اليوم في غزة. ولا يأتي هذا الالتصاق على شكل حنين ماضوي لما هو مفقود أو ضائع، وإنما يتشكل بصيغة استرداد ممكنة تجد إنجازها لنفسها عبر مقاومة ترد عنها نمطية التفكير فيها على شكل كينونة مستلبة يمكن تشكيلها مثلما يراد لها أن تتشكل؛ وإنما تعمل بصيغة الممكن دائما، وبصيغة الأمل في الأمل، حتى وإن كان هذا الأمل ضئيلا وفي ظل الموت غير المتوقف. إذ يجد الفلسطيني دائما مسربا له يجدد فيه ذاته التي يجري طمسها ببعثها من تحت الركام والدمار.
وفي كل حالة من حالات انبعاث الفلسطيني وسعيه للحفاظ على ذاته وحضوره، إنما يعمل في ذات الوقت على جعل نفسه مرآة للآخر، يرى فيها نفسه من خلاله، وإن كان هذا الآخر لا يريد النظر أو التحديق في بشاعته، إلا أن إصرار الفلسطيني على تجسيد ذاته من جهة، وبث معاناته وألمه من جهة أخرى، كما جعل مقاومة تغييبه مركزا للنظر إليه، يفرض على الآخر سواء أكان عدوه أم الآخر المنتمي إلى قيم الحضارة الغربية النظر إلى توحشه وقساوته مثلما إعادة النظر في مدى تطبيقه للقيم الإنسانية على غيره من البشر. وهو ما يجعل من الفلسطيني إنسانا عالميا، لأنه يجسد اليوم كل القيم التي فشل الغرب بحداثته الحفاظ عليها. ولأن الفلسطيني اليوم يرتقي فوق إنسانية البشر المبتذلة والتي ترزح تحت ممارسات تبدل معاني القيم وتجعلها غير قابلة للانطابق إلا على بشر بعينهم دون آخرين، وتلغي مساحات التمييز ما بين الخير والشر، فلا تعود الإنسانية قادرة على التمييز بينهما، في حين يصبح الفلسطيني هو الوحيد القادر على إعادة تقعيد هذا التمييز، من خلال إمكانيته الوصول إلى معان لا يصل إليها غيره، وتحديدا تلك المتعلقة بالوجود الإنساني والتي في قمة هرمها يقبع معنى الحياة والموت، والتي تُستمد منها كل القيم الأخرى. إذ أن التصاق الفلسطيني مباشرة بالموت وبالحياة في لحظة زمنية تجمع ما بينهما دون حد أو فاصل للاختيار، تصيغ مصيره في مسرب خلاصي، خلاص من التوحش عبر درب الآلام، ومسار الفداء، فداء للبشر جميعا بتقديم جسده على مذبح الحرية. كأن الفلسطيني اليوم هو مسيح هذا الزمن، فهو النموذج الإنساني الذي يحمل على عاتقه اليوم مهمتين رئيسيتين تشملان إعادة تقعيد القيم الإنسانية التي تم نبذها، والثانية تحرير الإنسان من نفسه المشوهة والخاضعة لهذا الشر العالمي الذي يلغي التمييز القيمي ويخلخل تطبيقه.
درجة الغليان الثانية: الحلولية ما بين "فلسطين" و ما بين "كأنها فلسطين"
حافظ الفلسطيني إلى اليوم، ورغم سنوات اللجوء والسلب والطرد، على اسم "فلسطين" حاضرا، فهي "كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمّى فلسطين"، وحتى الدولة التي تسعى الرسمية الفلسطينية إلى تحقيقها على ما تبقى من الأرض هي "دولة فلسطين". لكن سؤال الابتداء الأول للتفكير في فلسطين ما هو إلا سؤال عن: أية فلسطين يجري الحديث؟ فالخلل في الإجابة عن هذا السؤال، أو حتى مجرد التفكير في طرح مثل هذا السؤال يتضمن سؤالا آخر يتعلق بفلسطين المتخيلة وفلسطين المتحققة، فلسطين في المخيال الجمعي الثقافي، وفلسطين على أرض الواقع السياسي. والعلاقة ما بينهما هي بحد ذاتها في موضع اشتباه يؤدي إلى خلل عميق في الإجابة على سؤال التفكير فلسطينيا وإلى صعوبة أعمق في التفكير في فلسطين سياسيا وثقافيا. وبالتالي، هل يجب التفكير في فلسطين كتجريد، ورفعها إلى مرتبة القيمة المتعالية المطلقة لتكون بمثابة الشرط القبْلي العام الذي يحدد صلاحية التفكير في فلسطين وشكلها بحيث يتم التحلل من قيود ماثلة في الوضع القائم بما هو عليه، والانطلاق نحو ما يراد له أن يكون أو كان قبلا؟ ولكن، وفي المقابل، هل يمكن التفكير بما يُراد له أن يكون دون التفكير في قيود الوضع الراهن؟ أو هل أساسا، ومن حيث المبتدأ، يُسمح لفلسطين أن تكون؟
ينطلق التفكير في فلسطين أولا كجغرافيا، كحيز مكاني، يُنظر إلى تشكله المادي من خلال النظر إلى ما حدث فيه من وقائع تاريخية، تسببت في إحداث إنكسارات في تماسك هذا الحيز، وبالتالي أثرت في المخيال السياسي والثقافي الفلسطيني، وتحويله تارة إلى فردوس مفقود بعد نكبة 1948 بخروج الفلسطيني من المشهد؛ وتارة أخرى تحويله إلى مكان خارج المكان في رحلة البحث عن الهوية والعودة إلى فلسطين بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية 1964 وفصائل الثورة الفلسطينية المختلفة، وتارة بتحويل المكان إلى صيغة الممكن من المكان، وذلك بعد جلسة المجلس الوطني عام 1974 وبرنامج النقاط العشر، وصولا إلى أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، وما نجم عنها من التفكير فيما تبقى من المكان الذي صار "أي مكان" من فلسطين و "كأنه فلسطين".
وتفترض درجة الغليان هذه عند التفكير في فلسطين، التفكير في هذه السياقات وتداعياتها ثقافيا وسياسيا، وإعادة النظر في عملية صناعة القرار السياسي خلال مجمل الفترة التي لا تبدأ فقط من نكبة عام 1948، وإنما تمتد إلى فترات الهجرات الصهيونية الأولى إلى فلسطين. غير أن المقالة هنا ستنطلق من حقيقة الوضع القائم عندما أصبحت فلسطين في الفكر السياسي الفلسطيني هي "لا-مكان"، أو أقل من مكان، أو ما تبقى من المكان، أي "أي مكان"من فلسطين يمكن التعاطي معه وكأنه فلسطين. بحيث أصبح الرهان على صيغة "كأنها فلسطين"، هي الصيغة الرسمية الثابتة في متغيرات السياسات الواقعية، إذ تتغير فلسطين على الأرض بموجب سياسات القضم والضم والتوسع الإستعماري، فيما تبقى الرسمية الفلسطينية ثابة في اعتبار أن أي جزء من فلسطين يمكن اعتباره وكأنه فلسطين. فلا تعود "فلسطين" صيغة أصلية في التشبيه والتشابه، بل يُستدخل عليها صيغة الحذف والحلول في محل المقام الأول.
والحلولية الرسمية الفلسطينية، لا تقوم على الاتحاد والتوحد مع صيغة ما كان أولا معروفا بأنه فلسطين، وإنما بصيغة تحويل المجاز إلى حَلِّ يحل محل "فلسطين"، ليكون المجاز هو الجزء الحقيقي من المعنى بينما يصبح المعنى الأصلي والحقيقي جزءا من المجاز. إنها محاولة للبحث عن قدر من اليقين في معنى "فلسطين" دون الوصول إلى حقيقة أصلية أولى ونهائية حول معنى فلسطين بالنسبة للفلسطينيين، أو مواءمتها مع مخيالهم الثقافي حول علاقة دالة "فلسطين" بمدلولها في أذهانهم من خلال فهمهم لواقعهم. غير أن اللافت في الأمر أن هذه الحلولية الرسمية هي على علاقة عكسية مع جغرافيا المخيال الثقافي الفلسطيني، والتي لا تماثله في القبول بصيغة التقلص والانكماش عبر التشبيه الأقل من المشبه به. فأبسط التمثلات الثقافية اليوم التي ينتجها الفلسطينيون في فلسطين -في غزة وفي الشتات هي أوسع كثيرا من مجاز الرسمية الفلسطينية الضيق.
درجة الغليان الثالثة: البطل وحكاية لم تنته بعد
ما بين الفلسطيني وفلسطين يقطن فعل/زمن الحكاية بينهما. فهو حبل الحبكة الذي يربط الحكاية من أولها لآخرها، ولا تُروى الحكاية من دونه، ولكن الزمن في ذات الوقت هو البطل المضاد في هذه الحكاية. فهي حكاية يبحث الفلسطيني فيها عن الزمن الهارب من أجل مصارعته والانتصار عليه كي يُتم حكاية لم تنته بعد. وفي هذه الحكاية، سيكون الفلسطيني بطلا ملحميا، يشبه الأبطال الأسطوريين، نصفه آله ونصفه بشر، فهو يصارع قوى خارقة للطبيعة تمثلت في زمن على شكل وحش مشوه يعتاش من جثث الأزمنة المركبة المكومة فوق بعضها البعض، وعلى الفلسطيني أن يعيشها في حلقة مضغوطة يتنقل بينها في تزامنها، فيما سيصارعها في آن معا حتى تنتهي الحكاية/ الملحمة. غير أن الفلسطيني لا يبدو في حلبة المصارعة هذه وكأنه يريد أن يكون في مصاف الآلهة، أو في عداد الأبطال الباحثين عن المجد والتخليد الأسطوريين. لا يريدُ الفلسطيني أن يكون بطلا، أو إلها، بل يريد أن يكون في حكايته إنسانا عاديا، يعيش روتين البشر العاديين الذين يتابع أفلامهم السينمائية، وأوقات فراغهم، ورحلاتهم للاستجمام، ويقضي أوقاتا طيبة دون موت أو شر.
بهذا التسلسل يمكن أن تروى حكاية الفلسطيني، حكاية تنتهي كما الحكايات التي يقرؤها الأطفال الصغار، لها نهايات سعيدة. غير أن المفارقة ماثلة في أنه حتى في القصص فإن النهايات السعيدة لا تأت أبدا دون حبكة قاسية تصبغ معنى على النهاية وعلى أفعال شخصياتها. وحبكة الفلسطيني اليوم، حبكة من حلقات استحكم إستغلاقها عليه، فما عاد يمتلك إلا خيار أن يكون بطل حكايته الشخصية الحميمية الخاصة جدا، والعامة جدا جدا. ستكون حكاية كل فلسطيني، حكاية لا تنتهي إلا بمروره بدور البطولة كي يصل خط النهاية. عدا ذلك ستظل هذه الحكاية مفتوحة دون نهاية، فيما تستمر الأحداث في اجتراح الأحداث والتفاصيل واحدا تلو الآخر، لأن زمانها مفتوح بانفتاح حدث النكبة على زمن الفلسطيني، الذي عليه أن يتجاوزه. فكي لا يكون بطل الحكاية، على الفلسطيني أولا أن يكون بطل حكايته، إنه استحقاق رمزي وواقعي في آن، عنيف وقاس، وهو مسار عليه المرور به، ولا خيار له فيه غير خيار اختياره.
تلك هي معضلة البطل في هذه الحكاية: كيف لا يكون بطلا من خلال أن يكون بطلا؟
الخروج من درجة الغليان: التفكير من خلال مشاعرنا
لعل الادعاء بأن الفلسطيني يفكر اليوم بمشاعره قد يحمل للوهلة الأولى الكثير من المبالغة، لكنه فعليا، وفي ظل حرب الإبادة التي تشن عليه في غزة وفي الضفة الغربية، إنما يفكر بروحه، في تفكير محموم يغلي، فهو يتابع الأحداث بمشاعره، ويتفاعل معها بمشاعره، ويعلق عليها بمشاعره. ولا يعني هذا أبدا أن الفلسطيني لم يعد يفكر تفكيرا عقلانيا فيما يحدث، وإنما على العكس من ذلك تماما، إذ أصبح تفكيره أكثر كمالا، لأنه أصبح مرتبطا بإنسانيته أكثر، وبذاته أكثر، لالتصاقة بواقعه أكثر وبسياقه أكثر. أصبح الفلسطيني اليوم أكثر التصاقا بفلسطينية لأنه أصبح أكثر التصاقا بمجرى حياته الحقيقي الذي تم تغطيته بطبقة السياسات الرسمية والاستعمارية التي أفقدته معاني الحياة كفلسطيني وكإنسان.
ولربما كان الإنجاز الفلسطيني الأكبر خلال معركة "طوفان الأقصى"، هو كسر تلك الحدية الثنائية المعرفية الغربية القائمة بين الذات -الموضوع، والروح -الجسد، والعاطفة -العقل، والتي أثبتت فشلها في التفكير في فلسطين وفي التفكير فيما يحدث للفلسطيني وللإنسانية عموما، لأنها لم تعد تنتج معرفة ذات مغزى حقيقي، لأنها ترد كل معرفة إلى نظامها المعرفي الذي لم يعد صالحا للتعميم، ولا لتفسير ما الذي يعنيه توحش الإنسان بهذه الطريقة البدائية التي تحدث في فلسطين في غزة؟ وستطرح المعركة اليوم في فلسطين على الإنسانية أسئلة إشكالية ظنت أنها انتهت من الإجابة عنها وتجاوزتها، لكنها تفشل في الإجابة عنها عندما يتعلق الأمر بالجزء الآخر من هذا الكوكب. وعسى أن يسعف الفلسطيني- الإنسان الوقت والزمن كي يبرهن معرفيا كيف أن معركته الطويلة منذ 76 عاما قد بدأت تخلق نظامها المعرفي الخاص بها من الميدان ومن داخل الثغور ومن أسفل من تحت الأرض من الأنفاق، ليكون الادعاء بأن الفلسطيني الملتصق بروحه وجسده من خلال التصاقه بقضيته وسياقه الخاضع للاستعمار هو الأكثر تعبيرا عن كيفية فهم مشكلة الإنسان الأولى: كيف يتصرف كإنسان؟