دخلت حرب الإبادة شهرها الثاني عشر وسط تقديرات سائدة بأنها مرشحة للاستمرار أشهر عدة على الأقل، وذلك في ظل مسعى إسرائيلي لتحقيق الأهداف التي لم تتحقق، ولمساعدة دونالد ترامب على الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية؛ لأن فوزه سيجعل فرص الحكومة الإسرائيلية في البقاء وتحقيق أهدافها أكبر، وذلك لأن التوصل إلى صفقة تبادل وتهدئة عشية الانتخابات من شأنه أن يزيد فرص كامالا هاريس كونه سيزيد من تصويت العرب والمسلمين لصالحها، الذين أصبح لصوتهم أهمية في ظل التقارب في الاستطلاعات بين هاريس وترامب، ووجودهم المؤثر في بعض الولايات المتأرجحة سيحسم التصويت فيها مصير الانتخابات.
يتضح ترجيح استمرار الحرب من المعارك المحتدمة والوقائع الميدانية في قطاع غزة والضفة الغربية وجبهات الإسناد، خصوصًا الجبهة اللبنانية، ومن خلال أن المفاوضات متوقفة عمليًا، وأن الحديث الأميركي عن تقديم عرض جديد، وهو إن تحقق فيعني استمرار عملية الخداع وللمماطلة والتسويف، التي تستهدف حرف الأنظار وكسب الوقت والتغطية على استمرار الحرب.
تريد الإدارة الأميركية التوصل إلى صفقة، ولكن بايدن لا يملك الإرادة السياسية ولا الرغبة (مع أنه يملك القدرة) للضغط على إسرائيل؛ لأنه صهيوني ولا يريد أن ينهي حياته السياسية - التي أحد أهم مميزاتها دعم كبير وحار لإسرائيل - بأزمة حادة مع حكومتها، ولأنه يخشى إذا مارس الضغط عليها أن يؤثر ذلك على فرص هاريس بالفوز جراء حجب الأصوات عنها من مؤيدي إسرائيل.
حتى لو قدمت إدارة بايدن صيغة جديدة لجسر الخلافات، فإنها لن تكون متوازنة، وستحمل حركة حماس المسؤولية، وإذا سلمنا جدلًا بأنها ستكون متوازنة، فإنها على الأغلب لن تترافق مع إرادة سياسية جادة للضغط على حكومة نتنياهو، وبذلك لن يكون لها فرصة للنجاح، فالأرجح أن تستمر إدارة بايدن في إدارة الحرب، مع الحرص على تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، والأهم على عدم توسيعها إلى حرب إقليمية. وبهذا الموضوع أجبرت واشنطن حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب على الالتزام بمنع توسيع الحرب إلى حرب إقليمية.
هل ما سبق يغلق الأفق لوقف الحرب، وتحديدًا للتوصل إلى صفقة تبادل وتهدئة بصورة كلية؟
لا، طبعًا فهناك تصاعد في الاحتجاجات الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، وتحديدًا منذ قتل ستة من المحتجزين الإسرائيليين، حيث شهدت المدن الإسرائيلية مظاهرات شارك فيها أكثر من ٧٠٠ ألف متظاهر، وفي مظاهرة واحدة يوم السبت الماضي شارك وفق أكثر من مصدر في تل أبيب وحدها أكثر من ٥٠٠ ألف متظاهر، وهذا إذا استمر وتصاعد يمكن أن يجبر الحكومة على التراجع، فكما هو معروف جمد نتنياهو التعديلات القضائية عندما وصلت الاحتجاجات حدًا ينذر بالعصيان المدني، وتراجع مرة أخرى عن إقالة يوآف غالانت للسبب نفسه.
إضافة إلى ما سبق، لا يمكن إغفال تأثير العوامل الضاغطة الأخرى، مثل استمرار المقاومة وإيقاعها خسائر بشرية وعسكرية واقتصادية ومعنوية، ودخول الضفة بصورة أكبر إلى المعركة، سواء بسبب العدوان الإسرائيلي عليها، حيث نفذت قوات الاحتلال أكبر عملية اقتحام استمرت عشرة أيام واستهدفت جنين وطولكرم وطوباس ومناطق أخرى، أو جراء دخول مناطق أخرى، مثل الخليل التي دخلت على الخط، وشهدت تنفيذ عدد من العمليات، بما فيها سيارات مفخخة، سقط فيها ثلاثة قتلى إسرائيليين، فضلًا عن ضغط استمرار المذبحة المفتوحة على المقاومة، فالذي يُذبح أبناؤها وقياداتها وأهلها ومقاتلوها، وعلى المجتمع الدولي حيث تتزايد الضغوط الدولية ومن دول متزايدة وإن ببطء على إسرائيل، وكذلك تدهورت مكانة إسرائيل الدولية بصورة غير مسبوقة. ويضاف إلى ذلك، عملية جسر الكرامة التي نفذها ماهر الجازي الأردني، وسقط فيها ثلاثة قتلى إسرائيليين واستشهاد المنفذ، وهي عملية ذات دلالة على أن المنطقة تغلي ولا أحد يعرف كيف ستسير الأحداث، ومتى ستحدث انفجارات، خصوصًا إذا استمرت حرب الإبادة والضم والتهجير؟
كذلك، فإن تراجع احتمال نشوب الحرب الإقليمية بعد الرد المحسوب الذي نفذه حزب الله على اغتيال فؤاد شكر لا يعني استبعادها كليًا، ولا يعني عدم تصعيدها دون مستوى الحرب الشاملة، لا سيما أن الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية في طهران لم ينفذ بعد، مع استمرار تعهد إيران بالرد، ومع استمرار التهديدات الإسرائيلية لنقل المعركة الأساسية إلى الشمال.
هناك عوامل أخرى لا يمكن إسقاطها كليًا من الحساب، مثل استمرار الخلافات بين وزير الحرب وجيش الاحتلال والأجهزة الأمنية من جهة، والحكومة من جهة أخرى، بشأن أولوية إطلاق المحتجزين والأسرى على استمرار الحرب مع العودة إليها بعد انتهاء فترة التهدئة وبالوقت المناسب، إضافة إلى تجدد المظاهرات في جامعات النخبة الأميركية، وكذلك في الجامعات الأوروبية، واحتمال صدور مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت، حيث لن تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من الاستمرار إلى الأبد في عدم إصدارها بسبب الضغوط الممارسة عليها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى محكمة العدل الدولية المطالبة بإصدار تدابير تشمل وقف الحرب فورًا.
ولا يمكن إسقاط احتمال حدوث ما هو غير متوقع حدوثه (سيناريو البطة السوداء)، سواء في إسرائيل أو الولايات المتحدة أو في المنطقة العربية والإقليم، أو في دول عربية عدة، أو دولة واحدة على الأقل .
ولكن، مع أهمية أخذ كل الاحتمالات والسيناريوهات بالحسبان، فإن السيناريو المرجح حتى الآن الذي يوجب الاستعداد له، هو استمرار الحرب، ولو بأشكال جديدة، إلى أن يقضي الله ما كان مفعولًا.
ففي النهاية ستتوقف الحرب، ويجب بذل كل الجهود لوقفها، وفي ضوء ما سيحصل الآن، ونتائجها النهائية ستتحدد معالم اليوم التالي، ولكن في كل الأحوال وإذا كان استمرار الاحتلال لقطاع غزة لفترة غير محددة أمر حاصل ومتوقع، فإن استمرار المقاومة حتى دحره تحصيل حاصل.