الثلاثاء  01 تشرين الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الحق الحصري في التوحش المطلق

2024-10-01 08:52:43 AM
الحق الحصري في التوحش المطلق
رولا سرحان

سيمر في 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 2024 عام كامل على الإبادة في فلسطين في غزة ممتدا إلى لبنان وحتما غير مقتصر عليها، وستظل الإنسانية في مواجهة مباشرة مع معضلة كبرى تحت مقصلة السؤال المركب: لماذا لم يتمكن أحد حتى اليوم من وقف هذا التوحش؟ ولماذا لا يتوقف المتوحش عن توحشه بل يحوله إلى حق، بل وحق حصري مطلق له وحده؟ ولماذا يمتد هذا التوحش في أفق المكان الذي نسكنه ويطال كل من نحب، ولم نعرف، ومن لم نلتقي به، كأنه يقتل كل ما يمكن أن يكون على صلة بنا في مكاننا؟

ستطل من على وسائل الإعلام صورة، وستكون الصورة مفاجئة دوما، صورة لانفجار كبير، أو موت لطفل صغير، أو اغتيال صعب على النفس لقائد ورمز. ولن تكف الصورة عن مفاجأتنا مثلما لا يكف المتوحش عن مفاجأتنا، إنه فائض القوة الذي لا يحول الإنسان إلى إنسان كما يفترض المخول بالتوحش ذلك، بل يحوله إلى وحش يتعامل مع فائض توحشه المستمد من القوة العارية فقط، والتي تفتقر إلى قوة العقل وقوة الروح، بل تسعى إلى تحطيمهما وسحقهما.

هنا التوحش العاري في أوضح صوره لمن يريد دراسته في التفاصيل الصغيرة مثله مثل ظهوره في التفاصيل الكبيرة. سيأتي المتوحش ومعه منظومته الكاملة لتثبيت نفسه، لغته ومظاهره وأدواته؛ فهو سيحدد معالم المكان وكيفية تعريفه؛ ومعنى الوقت ومواعيده؛ ولغتنا المستخدمة ومصطلحاتها. فالحياة في ظل التوحش هي حياة فوق الحياة، أو بالأحرى هي حياة تحت الحياة، لأنها حياة خلف جدران الخوف، وفي مواجهة الموت القادم دائما، فلا شقوق فيها لاسترداد الإنسانية، لأن الإنسان فيها مطرود أو مطارد. ففي ظل الحياة مع الوحش لن يكون للمكان معنى، لأنه سيصبح كأنه مكان، فليس فيه ثابت للاستقرار والتسكين، سيصبح المكان متحركا، فيتحرك فيه الناس بشروط التوحش وفق تعريف المتوحش: مكان تحت القصف أو مكان محتمل للقصف، وما بين قصف وقصف لن يكون هناك وقت. سيمسك المتوحش بالوقت، فهو الذي يحرك زمنه بين مواعيد امتصاص الحياة مما تبقى من حياة فينا. سيكون الوقت واحدا من مظاهر ممارسات "الحق السيادي" بما هو الحق في القتل، والذي لا يخضع سوى لقانون واحد؛ القتل العشوائي في أي وقت وبأي طريقة، فيخول المتوحش لنفسه هذا الحق ويعمل على حصره عليه. لذا سيكون القانون الذي يتحكم في الوجود ليس قائما على حق الآخر في الحياة وإنما على الحق في قتله، عندما يكون هذا الآخر شرطا منفرا لاستقرار حياة المخول بالتوحش. 

حتى لغتنا ستتغير، سيملأ المتوحش لغتنا بمعجم مصطلحات جديدة تملأ الأفكار والكلام المأخوذين من الواقع، سنعرف معنى الحزام الناري، وقصف السجادة، والطائرات الحربية من طراز  F-15، والقنابل الخارقة للتحصينات التحت-أرضية، وسنتحدث عن أوزان القنابل بالأطنان، وتفاصيل رؤوسها الحربية. سنصبح خبراء عسكريين في توصيف مشهد العدوان، بدل أن نكون بليغين في توصيف تفاصيل الحياة الصغيرة والعادية لنهارات روتينية تقبلنا بشرا. أما لغة المتوحش، فهي لغة فيها تصريح يجاهر بالقوة والمقدرة على اقتراف المزيد من التوحش، دون الحاجة إلى البلاغة أو عناصرها فهي مباشرة وصريحة، وهي بحد ذاتها دالة تحمل المدلول معها بلا انفصام بينهما. فلغة المتوحش هي توحش بحد ذاتها، تمارس عنفها المباشر بترهيبنا أكثر وأكثر، بل هي لغة تبرر منطق التوحش وتسوغه عقليا وعمليا، قادرة على تجديد نفسها باعتبارها المعيار الأعلى للإنسانية، فيما هي لغة تفترض أنها، وفي ذات الوقت، تعبر عنا، وكيف أننا مازلنا نعيش طفولتنا البدائية ما قبل أن نصبح بشرا بالغين عاقلين، وكيف أن علينا أن نتعلم كيف نكون على قدر ما يقيس لنا الوحش من إنسانية، فهو المعلم، ويؤدي دوره التربوي بالقذيفة والطائرة.  

غير أن المفارقة ماثلة في أن هذا المتوحش لا يدرك التناقض الخلاق لتوحشه، وأنه كلما ازداد في توحشه، كلما ازددنا إنسانية، بل كيف أننا نصبح وحدنا معيار الإنسانية المطلقة، فكل مطلق له مطلق مضاد معاكس له في الاتجاه ومساو له في القوة، تلك هي قوانين الوضعية التجريبية في أبسط مقاييسها. أما بمقاييس المثالية الفلسفية سنكون معيار الوجود الذي لا يفهم إلا بالروح والمادة، فكل ما يفنيه المتوحش من مادة إنما لا يفنى "فلا نفنى بفناء المادة" كما قال الفارابي، بل تتغذى الروح فينا على الفناء المصطنع كي نحيا ونقاوم الوحش!