السادس من آب وعلى الساعة الثانية ظهراً من العام 1982، ألقت طائرة إسرائيلية، قنبلة فراغية على بناية تقع في محلة الصنايع ببيروت الغربية، ما أدّى إلى تدميرها وقتل جميع ساكنيها.
كانت المعلومات الاستخبارية تؤكد وجود ياسر عرفات فيها. لم يكن هناك بل كان على مقربة من البناية المستهدفة، وكنت معه.
وقبل التدمير بساعات وصلته رسالة عبر جهاز اللاسلكي أرسلها أحد أصدقائه العاملين في الأمم المتحدة في نيويورك تقول.. "انتبه فهنا من لا يريد خروجك حيّاً من بيروت".
كان ياسر عرفات يعتمد على نفسه في أمر أمنه، كانت حاسة الحذر لديه تعمل بكفاءة، وكان يشم رائحة الخطر قبل وقوعه، ويبادر إلى التصرف وينجو، لم يكن لديه ما لدى المتربصين به من إمكانات ووسائل استخبارية وأدواتٍ ومنظومات حماية، كان يعوّض عن كل ذلك بحاسته النشطة في الحذر والتمويه، وتغيير نمط حياته اليومية، والاعتماد على مرافقيه وحرّاسه المحبين له والعارفين بأهمية مكانته كقائد شعبٍ وثورة، وكضرورة وطنية لا تحتمل الغياب.
البناية التي دمرتها قنبلة فراغية لا منجاة منها، وقد استخدمت لأول مرة، كانت الأخيرة في حرب بيروت، كانت الحدث الفاصل بين أن يُدفن عرفات تحت أنقاض بناية مليئة بالناس، أو يغادر بيروت إلى ما وراء البحر، ليواصل حربه وحلمه، الذي بدا بعد مغادرة المدينة العظيمة كما لو أنه مستحيل.
مرّت في خاطري هذه الواقعة بعد أن شاهدت على الشاشات تدمير البنايات التي أودت بحياة السيد حسن نصر الله، وتساءلت.. لو قُتل عرفات في تلك البناية ألا يتغير مسار التاريخ الفلسطيني وتتحول حرب بيروت من محطة لها ما لها وعليها ما عليها إلى هزيمة لا مجال للوقوف بعدها؟
عاش عرفات طويلاً بعد ذلك، واصل الحرب وراء حلمه، إلى أن صار قريباً من التحقق، وبعد رحلة مضنية من الطواف في فيافي الغربة القاحلة، عاد إلى الوطن، حاول إقامة دولته الحلم، كما لو أنه يحفر الصخر بأظافره، ولأنه بشر من دمٍ ولحمٍ وأعصاب، أخطأ وأصاب، إلا أنه وإن لم يشهد ولادة الدولة التي بدا كما لو أنها على مرمى حجر، فقد أوصل الفلسطينيين إلى الوقوف على مشارفها.
مات عرفات وهو في قلب أصعب المعارك التي خاضها من الطلقة الأولى إلى الخطوة الأخيرة على أرض الوطن، مات بعد حصارٍ طويلٍ داخل بناية في رام الله، كان بوسعه مغادرتها والنجاة الشخصية لو قال كلمة واحدة كانت مطلوبة منه، "تعبت وسوف أتوقف".
في تلك البناية التي لم تدمر كتلك التي دمرت على رؤوس ساكنيها في الصنايع ببيروت، دمرت مقوّمات حياته فيها.. ماءٌ بالقطارة، وخبزٌ يتقاسم أرغفته القليلة مع المحاصرين معه من رفاقه الأوفياء ممن ربطوا مصيرهم بمصيره، قلة الهواء والماء والشمس، أنتجت مرضاً صعباً لا بد وأن يفضي مع الاغتيال المباشر إلى الموت.
كان عرف مصيره لأنه قرره بنفسه، حين كانت القذائف تدك جدران مكتبه ليقول.. "يريدونني أسيراً أو شريداً.. لأ أنا أقول لهم شهيداً شهيداً شهيداً".
غادر المبنى الذي وصفه محمود درويش بالضريح الحجري، محمولاً على أعناق رجاله في رحلة علاج ميؤوس منه، ليعود بعد أسابيع كي يدفن في فنائه، لم يذهب تعبه وألمه وجريه المضني وراء حلمه سدىً، وسواء شاء الإسرائيليون أم أبوا، فقد وضع عرفات في رام الله التي تبعد أشباراً عن القدس، أول الطريق نحو الدولة.
كل ذلك مرّ في خاطري، وهأنذا أقول.. قلبي على بيروت ومعها، قلبي على أهل الضاحية ومعهم، قلبي على لبنان، الذي نذرته الأقدار لأن يكون وعد حقٍ لأمة ولكرامتها وكبريائها، لبنان يجب أن يعيش ففي حياته أملٌ وحلمٌ وغد.
نجا عرفات من تدمير البناية في محلة الصنايع ببيروت بفعل حيطته وحذره وقدره، ولكن السيد حسن نصر الله لم ينجُ رحمهما الله.