بدأ الإعلام الإسرائيلي مع صباح اليوم، السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، موجات تغطية مفتوحة كما نشر جملة من التغطيات الإخبارية الصحفية المكتوبة لما تمت تسميته "إحياء الذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر الأسود"، وفي تسميات أخرى أطلق عليه الإعلام صفة "الكابوس"، أو "اليوم الذي لم ينته بعد". وجاءت هذه الممارسة التذكرية في سياق ما حددته حكومة دولة الاحتلال باعتباره "يوماً وطنياً سنوياً للحداد لتذكر ضحايا السابع من أكتوبر/تشرين الأول". وامتد إحياء الذكرى لتقديم صورة عن كيفية إحياء هذا اليوم من قبل "شرائح اجتماعية" أخرى في دولة الاحتلال، ما بين الفنانين الذين عبّروا عن السابع من أكتوبر من خلال اللوحات الزيتية والمنحوتات والملصقات وفن الشوارع، إلى استحضار شهادات من كانوا في الحفل الغنائي في مستوطنة "ريعيم" وبث بعض الأغاني التي كانت تصدح خلاله عبر محطات التلفزة والإذاعة، إلى جانب تقديم تقييمات أمنية وسياسية عن الإخفاق العسكري والهزيمة التي منيت بها إسرائيل ولم تكن في الحسبان، والتي ستُحفر في ذاكرتها حتى نهاية مشروعها الاستعماري. أما عند الساعة السادسة وتسع وعشرين دقيقة من صباح هذا اليوم، فقد توقف البث الإعلامي (المرئي والمسموع) لمدة دقيقة كاملة فيما سُمي "دقيقة صمت حدادا وإحياء لذكرى من رحلوا خلال هذا اليوم الأسود"، وهذا التوقيت هو التوقيت الذي دخلت فيه قوات المقاتلين الباسلين من عناصر المقاومة في غزة برا وبحرا وجوا لإعادة صياغة معاني الفاعلية الفلسطينة من خلال التأكيد على إمكانية الانتصار للفلسطيني، ولتدمغ محتله بوصمة العار التي لن تُمحى من تاريخه. وتضع هذه الخطاطة السريعة أمام المراقب سؤالا مركبا ماثلا في: ما الذي نفهمه من هذا الإصرار والتأكيد "الاستعماري-الصهيوني" على سياسات التذكر؟ ما الذي يفهم من هذا النسق المتكامل لهذه السياسات؟ ولماذا تحتل ثقافة التذكر هذه الأهمية في دولة الاحتلال؟
بداية، تجدر الإشارة إلى أن "ثقافة التذكر"، والتي لا يختص بها شعب معين، إنما جاءت وحصرتها المعرفة الغربية ومنحتها، عصورا إلى الوراء، لـ "بني إسرائيل"، فكان لها دور حاسم في تاريخ الحضارة الغربية استنادا إلى أسس لاهوتية-توراتية تحت ظل الصيغة الإلهية الآمرة: "تذكري يا إسرائيل واحفظي الذكرى". وعلى هذا الأمر الإلهي ظل الوجود الإسرائيلي مرهونا في التاريخ بهذه الصيغة التي كانت بمثابة اللُّحمة التي تحددهم كجماعة من منطلق أنها تحافظ على الالتزام الجماعي فوق مستوى الفرد، وتحت ظل السؤال الهوياتي المؤسس للجماعة اليهودية والذي هو: "ما هو الشيء الذي لا ينبغي لنا أن ننساه كمجموعة؟". والإجابة على هذا السؤال هي التي تخلق التمايز من وجهة نظر "اليهود" عن الآخرين ويأتي الانغلاق على الذات ليرفعها مرتبة فردانية متضخمة، وليحول بينها وما بين جميع الأغيار حائط حديدي يعزلها عن البشر الآخرين ويُضربُ حول هويتها فيما يؤدي إلى حالة من التطور الشاذ للجماعة، لكنه يضعها في موضع الاستثناء المطلق لجهة المنشأ. فهم كجماعة كانت تسيح في الأرض منفية منبوذة مطرودة لا مكان لها، حتى جاء وعد الرب على شكل عهد إلهي عندما كانوا يهميمون بين أرض مصر وأرض كنعان. فشكّل حدث "الخروج" من مصر والبحث عن أرض والعهد الإلهي ما بين "الإله" وهذه الجماعة حدثا تأسيسيا في تاريخها حوَّلها إلى شعب. فهو الحدث الصادم الأهم في تاريخهم، ومن هذه الذكرى بالذات سيستمد بنو إسرائيل صورتهم عن ذاتهم وهويتهم وأهدافهم ومطامحهم. وعلى هذه الذكرى بالذات استندت الحركات الدينية اليهودية في الشتات واعتمدتها كأساس لاسترجاع الماضي وتكوين هويتها، ضاربة هي الأخرى ستارا حديديا حول كل مظاهر الاندماج، ومعززة قيمة الخروج من كل البيئات التي ليست بيئة بني إسرائيل وتحاول ابتلاعهم، فتعزز الدين وثبت على شكل هوية جماعية لشعب بني إسرائيل، فكان الدين الذي صاغ الحدود التي تفصله عن الخارج ويصطفي هذه الجماعة لتكون شعبا خاصا متميزا. تأسيسا على ذلك، تسيس مفهوم "الشعب"، وتسيست الهوية الدينية، ونشأت إسرائيل كفكرة أو كصورة متخيلة يجتمع حولها اليهود أينما كانوا، ويستحضرونها داخليا بصيغة الاستذكار وإن لم يكونوا فيها.
على هذا تأسست أهيمة الاستذكار والحفاظ على التذكر كممارسة، بل كان نصا مقدسا وتكليفا إلهيا بالنسبة لبني إسرائيل بأن يتذكروا وأن لا ينسوا، وأما مكافأة منحهم أرضا إنما يقابلها طاعة التذكر وعدم النسيان. ففي سفر التثنية يُدخل إله بني إسرائيل شعبه "أرضا صالحة"، ويخاطبهم بأمر إلهي أنه إذا أدخلهم "مدنا عظيمة حسنة لم تبنوها وبيوتا مملوءة كل خير لم تملأوها، وآبارا لم تحفروها، وكروما وزيتونا لم تغرسوها، فإذا أكلتم وشبعتم، لا تنسوا الرب الذي أخرجكم من أرض مصر من دار العبودية". (12: 6-10) سيرتبط الاستذكار وإحياء الذكرى كتكليف إلهي باعتبارها محاولة لتجاوز أية عقوبة إلهية محتملة بنفس المقدار كمكافأة عبر تجاوز صدمة الخروج من مصر في رحلة التحرر من العبودية. وعلى هذا، ستكون "ثقافة التذكر" هي بمثابة تكليف وتشريف في ذات الوقت، وكل ممارسة استذكارية، هي إضافة على خصوصية هذه الجماعة، تزيد من لحمتها، وتزيد من شد أواصرها، فهي الرابط الأمتن ثقافيا في حياة هذه الجماعة، وهو يُبنى حول ثيمة مركزية هي ثيمة "الاضطهاد"، فعليهم أن يتذكروا اضطهادهم في مصر، واضطهادهم على أيدي أعدائهم من سكان الأرض الأصلانيين، ومن ثم طردهم وشتاتهم من أرض إسرائيل على هوامش أوروبا، ومن ثم اضهداهم وإحراقهم في "الهولوكوست"، ومن ثم تعرضهم المستمر لكراهية جيرانهم من دول الجوار، وتذكرهم لتاريخ من "إرهاب" السكان الأصلانيين في فلسطين، حتى وصل ذروته في أحداث السابع من أكتوبر.
بهذا لن تصبح صدمة "الاضطهاد"، قابلة للتجاوز، بل ستمتلك خاصية أن تكون ذاكرة الصدمة هي تلك الذاكرة التي تتكرر مرارا ومرارا، على شكل واقع حي وتاريخ يكرر نفسه. بل لعله يمكن الإدعاء بأن تكرار حضور المأساةعلى شكل اضطهاد لا يتوقف سيصبح حاجة وجودية ليُعرف "اليهودي – الصهيوني" نفسه بها ووحده، وليكون العدسة التي تنظر من خلالها إسرائيل إلى نفسها ومن خلالها إلى الآخر، بما يبرر اللجوء إلى كل وسائل حفظ الذات وتبرير العنف المتوحش تجاه الفلسطيني، ورفض الاعتراف بمعاناته، فما من سبيل إلا إلى تهميش كل النسخ البديلة من التاريخ، أو الذاكرة، أو الكتابة فوقها بالعنف الكامل والمتوحش، وفي مفارقة كبيرة تجاه التذكر الإلهي بفرض عملية "فقدان ذاكرة جماعي عالمي" تجاه سكان الأرض الأصليين.