منذ بدايات الربيع العربي بدأت أفكر فيما يمنع الحركة الصهيونية من استكمال ما فشل بن غوريون في فعله: تطهير ما تبقى من سكان في منطقة 48، إضافة إلى ترحيل سكان الضفة إلى أي مكان.
لم يكن يبدو لي أن هناك ما يمنع بعد أن تبعثر العرب والفلسطينيون وخسروا نقاط القوة والردع اضافة إلى خلو الساحة الدولية من أية قوة يمكن أن تردع اسرائيل عن فعل ما يحلو لها. كان سؤالاً محيراً حقاً يجيب عليه أنصار فكرة "المجتمع الدولي" الشهيرة بأن إسرائيل لا تستطيع، لأن المجتمع الدولي يمنع ذلك دون شك.
عندما دخل دونالد ترامب البيت الأبيض بدا واضحاً جلياً أن الزمن الذي "انتظرته" قد حل بالفعل. سرعان ما نقل الرجل السفارة الأمريكية إلى القدس، ثم اعترف بالجولان أرضاً اسرائيلية، ثم بدأ الحديث يعلو في اطار صفقة القرن عن دولة واحدة بين النهر والبحر لا شريك لها في السيادة، ثم "نجح" في إحلال "السلام" بين إسرائيل والإمارات والبحرين ...الخ ودشن التحالف العربي الإسرائيلي في مواجهة إيران ومحورها.
لو كنت نتانياهو لما ترددت لحظة في إطلاق مشروع اسرائيل الكبرى على الفور. وما كان نتانياهو أقل ذكاء أو "شجاعة" مني.
ولذلك شرع فعلاً في إتمام ما لا بد منه وسط عدم إدراك، أو عدم رغبة كثير من العرب والفلسطينيين في تصديق ما يجري.
دائماً تبدو الأشياء بعيدة عن نقطة الخطر، خصوصاً وأنت ترى المباني تصعد في سماء رام الله بينما تنتشر المطاعم والمتاجر كالفطر البري على غير هدى. يصعب على العقل النمطي العادي أن يتخيل أن ذلك كله يمكن أن يزول، أو أنه بناء عبثي لا يسهم في إبطاء المشاريع الإسرائيلية بأي شكل.
معظم من يفكر سياسياً في البلاد العربية يسلك بطريقة عجوز متهالك الصحة، ولكنه لا يتخيل في أعماقه أنه سيموت فعلاً بينما نجد من حوله، على العكس منه تماماً، يستغربون السر الذي يبقيه على قيد الحياة حتى هذا الوقت المتأخر.
وإذا استحضرنا السياسة مثالاً على ما نقول، فإن الدولة العثمانية اعتادت البقاء واعتاد سكانها ذلك على الرغم من أن مرضها كان عضالاً لا شفاء منه. فقط عندما ماتت الدولة بدأ الناس يفكرون: لماذا لم نبصر الموت الذي كان يعلو وجنتيها، والشحوب الذي يملأ عينيها؟ّ! بعد مجيء ترامب تسارع إيقاع الحركة الإسرائيلية باتجاه ابتلاع الضفة نهائياً.
ولسبب ما لم تشعر السلطة الفلسطينية أو سكان الضفة بالخطر الداهم.
ربما أن مشروع السلطة توقف عن أن يكون مشروعاً سياسياً منذ توقفت المفاوضات قبل زمن أصبح بعيداً بالفعل.
وربما أن أداءها لوظفائها اليومية أصبح شغلها الشاغل تاركة المستقبل السياسي ليسير على بركة الله دون تفكير في القيام بأية تدخلات قد تجلب على السلطة وعلى الضفة حمم جيش "الدفاع" الذي لا قبل لنا به مثلما أوضح أمير قطر الذي يجسد هذه الرؤية خير تجسيد: "نحن نعاج" ولا نستطيع أن نحارب إسرائيل. لكن الفرضية السياسية الجوهرية الموجهة للأداء السياسي "الضفاوي" في مستوى السلطة ونخب السياسية الليبرالية "العاقلة" كانت متفائلة أساساً: "إن اسرائيل لن تقوم بأي حال بضم الضفة كلها، كما أنها لن تقوم بتهجير الناس لأن المجتمع الدولي لن يسمح بذلك."
من هذه الفرضية يتقدم هؤلاء اليوم للوم المقاومة لأنها "قدمت للاحتلال الذريعة ليقوم بتدشين مشروعه الطموح الذي كان يمكن أن يظل نائماً". هناك بالطبع تيار فلسطيني آخر يظن أن إسرائيل أو جزء كبير منها في حالة اكتفاء بحدود 48 وليس من داع للتوسع الذي لا طائل تحته.
بالنسبة لأسطورة المجتمع الدولي يحسن بنا أن نحلها إلى مفرداتها الفعلية: الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
والصحيح أن جزءاً من أصحاب فرضية المجتمع الدولي يعد أمريكا طرفاً في الصراع، ولذلك يقتصر المجتمع الدولي بالنسبة لهم على أوروبا الغربية، وبشكل أكثر تحديداً: فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا.
وهذا المجتمع الدولي الذي يساعدنا كثيراً في مشاريع "التنمية" في الضفة، كان يشجع قطاعاً لا بأس به من زبائنه إضافة إلى قطاع من الجمهور البسيط على توهم أنه جاهز لردع إسرائيل عن التوسع.
غني عن البيان أن المواجهة الأخيرة في غزة قد كشفت لهم واقع الحال المرير: إن هذه الدول تابع صغير للولايات المتحدة، وربما أن إسرائيل الصغيرة أكثر استقلالاً منها. نقول ذلك متجاهلين واقعة لا نريد أن نناقشها: إن إسرائيل الابنة الشرعية "للمجتمع الدولي". نأتي لفكرة أن إسرائيل لن تذهب للتطهير النهائي للضفة.
وهنا نجد أن الواقعية السياسية، بالمعنى الذي يعطيه لها مورغنذاو وتلاميذه تفترض أن الدولة تميل إلى التوسع دائماً وأبداً كلما أتيحت لها الفرصة لفعل ذلك. ولا بد أن هذه الفرضية تنطبق بشكل أكبر على دول صغيرة مثل إسرائيل والأردن وقطر والكويت تشعر طوال الوقت أن أمنها ومواردها أقل مما يجب مقارنة بغيرها.
لكن هذه الفرضية على أهميتها لا تكفي لتفسير الحاجة الإسرائيلية إلى ضم الضفة والضفة الأخرى إن أمكن (مصداقا لللأغنية الشهيرة: للأردن ضفتان الأولى لنا والثانية لنا). تقوم الدولة/الأمة على أساطير سياسية/ايديولوجية تربط شعباً "متخيلاً" بأرض معينة بروابط ترقى أحياناً إلى مستوى القداسة.
ونلاحظ أن الدول الحديثة النشأة تحتاج إلى تأسيس هذه الأساطير أكثر من الدول المستقرة تاريخياً منذ زمن طويل مثل مصر والصين وإيران والعراق. في حالة دول مثل الأردن وقطر وإسرائيل والإمارات هناك حاجة ماسة إلى الأيديولوجيا التي تسوغ وجود الدولة/الأمة.
و"لسوء الحظ" فإن الفكرة الصهيونية تستند كلية إلى أساس تواراتي أسطوري لا يسنده أي عنصر آخر.
وذلك التراث يتركز في الواقع في "يهودا والسامرة" أي في الضفة وليس في الساحل الفلسطيني.
وهكذا فإن جوهر المشروع الصهيوني مرتبط بأرض الضفة ارتباطاً لا يمكن التخلص منه إلا بالتنازل عن الإرث التوراتي وتقمص دور دولة عصرية استيطانية بيضاء مثل استراليا أو نيوزلندا، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة، ويبدو أن تحققه بعيد المنال بالنظر إلى ان جزءاً كبيرا من جاذبية إسرائيل لليهود والمسيحيين البروتستنت تأتي من هذه الأساطير.
ينابيع المياه والغاز في غزة... الخ تشكل كلها عوامل إضافية لفرض السيطرة على الأرض كلها، ولا ضير من التوسع شرقاً إن أتيحت الفرصة. لذلك أجابت إسرائيل على تساؤلي عن سر تلكؤها بابتلاع الضفة بشروعها في ذلك بشكل واضح في أيام ترامب الشجاعة تحديداً.
وقد جاء الطوفان في ظل حالة "رعب" حقيقية من اقتراب "أكبر" دولة عربية هي السعودية من إنهاء "حالة الحرب" مع إسرائيل وتطبيع علاقاتها معها بينما تقوم الأخيرة بابتلاع ما تبقى من فلسطين.
جاء الطوفان ليردع هذا الاتجاه الذي كان يهدد الضفة أساساً لا غزة التي كان الإسرائيلي إجمالاً مستعداً لتحويلها إلى دولة فلسطينية مع العمل على إقناع السيسي ليعطيها بعضا من سيناء لتصبح دويلة "معقولة" الحجم. لو كنت نتانياهو وأعلم يقيناً أن الدول العربية والسلطة الفلسطينية خائفة ومردوعة وتخطب ودي وصداقتي ولن تفعل ضدي شيئاً، وربما تتعاون معي، لتقدمت دون شك باتجاه ابتلاع الضفة الأولى والثانية، خصوصاً أنني أعلم أن الصين غائبة عن المشهد والباقي ملحقات بالآلة الأمريكية.
ولكن لو كنت نتانياهو وأتحسب من قدرة المقاومة على الصمود في فلسطين ولبنان واحتمال أن يسهم ذلك في استنهاض جبهات أخرى لتوقفت وقمت بالعد حتى العشرة قبل أن أتوسع خشية أن يرتد الأمر عكسياً وأخسر قدرة الردع وأشعل شرارة حرب التحرير الفلسطينية الحقيقية التي ستقود إلى نهاية الحلم الصهيوني.
مريض السرطان الميؤوس منه كان يظن أنه سيظل على قيد الحياة لولا أن أحدهم لكمه لكمة قوية تسببت في نزيف مفاجئ، لكن الصحيح أنه كان ميتاً "مع شيء من الصبر" لو أنه ترك لمصيره.
في حالتنا يمكن للكي الذي قامت به المقاومة في الطوفان أن يقتل الخلايا السرطانية ويحيي الأمل الحقيقي في عودة مريضنا إلى الحياة الحقة.