نحب بيروت، ولا نشفى من حبها، مثلما نحب تونس ولا نرجوا شفاء من حبها كما قال محمود درويش. ونحب بيروت مثلما نحب الجزائر، أو الكويت، أو القاهرة، فحب المدن أصيل وأعمق من حب الناس للناس. وحب بيروت حب حائر، كأنك تحب نجمة، فبيروت رغم كل المحن ما زالت نجمة المدن العربية، وما زالت "ست الدنيا" كما قال نزار قباني فيها.
وبيروت تختصر لبنان، وتختصر العالم العربي، وفي زمنها غير البعيد كانت تختصر مدن الجمال والفن والتحرر والانفتاح، وبيروت اليوم التي لا تنام ترفع سقف القواعد البشرية وتضبط وقتها على موعد الحرية. تضع بيروت كل ذاكرتنا أمامنا كي لا ننسى كل الماضي وكل الحاضر المليء بشهاديتنا على توحش الغزاة رغم رائحة الخوف والجرح الذي يملأ النهار والليل ودقائق الساعة.
نعرف بيروت كما لا نعرف المدن الأخرى، من منا لا يعرف بيروت؟ من منا لا يراها في صوت فيروز، وصباح، وجوليا بطرس، ووديع الصافي، وفي ألحان مارسيل خليفة، وكتابات إلياس خوري، وأشعار سعيد عقل، وحكم جبران خليل جبران، وقلم طلال سلمان، وحوارات جزيل خوري؟ من منا لا يعرف بيروت البحر والضاحية والجبل أو جنوبها الذي قاتل ومازال اليوم يقاتل؟
لكل منا حكاية قريبة أو بعيدةٌ مع بيروت، فيعرفها. وأنا أعرفُ بيروت، حين ولدتُ هناك بين مجزرة وقصة حب بين لاجئ ومهجرة، ما بين لحظات القسوة الكاملة ولحظات العشق الخالد، ولدت بين تناقضات بيروت الجميلة التي تحمل الحب على شرفات الشبابيك المتلاصقة بين عمارتين، وقذيفة في الشقة المجاورة، أو لعبة نرد أو ورق مع الجيران والرصاص يملأ الشوارع.
نحن الذين كنا صغارا حملنا رائحة الحب والمجزرة في الذاكرة التي تتنفس من فوق جلدنا كلمات رطبة طازجة خرجت الآن وللتو من رحم الزمن. كل المشاهد المتقطعة، الصغيرة، المهملة، كبقايا كائن حي داخل كائن حي آخر، كانت تستفيق وترمم بعضها البعض، وتخرج منك لوحة كاملة رسمتها بمشاعرك؟ تنخزك كالإبر لتسأل نفسك هل أنا هذا الذي كنتُ هناك؟ هل أنا هذا الذي يحملُ عبئ هذه الجزء الصغير من القصة؟ ماذا أفعل بالقصة؟ ماذا أفعل بعبء القصة المشحونة بالتفاصيل التي تتراكم فوق تفاصيل اليوم وتكرر نفسها؟ ما الذي يمكنك أن تفعل بالقصة عندما يشبهُ جزؤها الأول جزأها الذي يُكتب الآن، عندما تستيقظ في فلسطين على صوت صرخة من غزة يُسمع صداها في بيروت؟ ولماذا فصول هذه القصة طويلة جدا، وتكبر كل يوم، ولماذا الكلمات فواصلها شظايا، والسطور محددة فوق الأشلاء، والصفحات تسيل وراء الصفحات كالدماء؟ ولماذا صوت الضحايا في الماضي يرفع صوت ضحايا الحاضر عاليا، وأعلى من ضجيج الطائرات في سماء اليوم؟ لماذا تظل الضحية تصرخ كي تُرى؟ لماذا لا ترتاح هذه الضحية المتعبة؟ هل لأنهما ترى نفسها ضحية من جديد؟
نعم، فنحن الضحية التي لا تريد أن تموت. فالموت يتجاوز الضحية، فالضحية وإن ماتت فهي لا تموت. الضحية تورث نفسها لضحية أخرى، تعبر الزمان والمكان ولا تسقط بالتقادم، وهي لا تخضع لقوانين البشر الذين لا يرودون رؤية الضحايا. تعبث الضحية بالعالم وتخيفه من نفسه لأنها مرآته التي تُظهره بصورة الوحش الذي يعتاش على جثث الضحايا وتريه نهايته وكيف يموت وحشا.
كان الوحش يلتهم الضحية، وكانت الضحية تعاود الخروج من جوفه، لكنه يعاود ابتلاعها من جديد، فتعاود الخروج من جوفه في متوالية حتى لحظة انفجار كبير نضج كلحظة تنكسر فيها حلقة الابتلاع فتلتهمه هي. كل الضحايا يلتهمون الوحوش في النهاية. تلك هي القصة الصغيرة في ذاكرتي الصغيرة، ومن غزة إلى بيروت بدأ الفصل الأخير لكسر حلقة الابتلاع والاستعداد لالتهام الوحش.