في كل مرة، وعندما يحصل أدنى خلاف أو تباين أو سوء فهم بين الموقفين، الفلسطيني والأردني، فإن نوازع الشر تستيقظ فجأة، وتبدأ بالتلويح بالعقوبات أو بالمعاملات الخشنة، وبعضها يصل إلى أكثر من ذلك بكثير، مثل التلويح بسحب جوازات السفر أو التخويف من مقولة فاسدة طالما روج لها عتاة الصهاينة وتلويحهم بما يطلق عليه الوطن البديل (الأردن وطن بديل عن الدولة الفلسطينية).
حصل هذا في الأسبوعين الماضيين حين جرى التصويت على رئاسة "الفيفا"، وبالرغم من تضارب ما قاله الطرف الفلسطيني حول عدم التصويت للأمير علي أو نفي ذلك والقول بأن الصوت الفلسطيني قد ذهب لصالح الأمير، فإن ما شكل صدمة في أوساط الشعب الفلسطيني ليس التصويت لهذا المرشح أو ذاك، بل سحب المقترح بتجميد عضوية إسرائيل من "الفيفا" والتسوية (جائزة الترضية) التي خرج بها الوفد الفلسطيني العتيد!
نقفل هذا الموضوع (الفيفا) إلى بحث في أمر أهم، جذري واستراتيجي يتعلق بجوهر العلاقة الأردنية – الفلسطينية وتداعياتها اللاحقة. لقد تم إقفال الحوار الذي كان قد دار في التسعينات من القرن الماضي، والذي انشغل فيه السياسيون الأردنيون أحزاباً وأطرافاً من السلطة الرسمية الأردنية لفترة هامة من التاريج السياسي الأردني، وفي غمرة ذلك النقاش فإن توقيع اتفاق أوسلو أولاً، ووادي عربة ثانياً قد ساهما في إغلاق هذا النقاش وأديا إلى انفصال في المفاهيم السياسية بين الموقفين الرسميين، الفلسطيني والأردني، فالقيادة الفلسطينية خرجت بشعار "تبريري" يقول: "يا وحدنا"، فالجميع، حسب هذا المنطق، ذاهبون إلى تسوية مع الإسرائيليين، ومن سيدفع الفاتورة هم الفلسطينيون! أما الطرف الرسمي الأردني فقد وجد في ذهاب الفلسطينيين إلى تسوية منفردة مدخلاً لتسوية شبيهة انتهت باتفاق وادي عربة.
خلاصة الأمر أن الطرفين الرسميين وجدا في المخارج السياسية المذكورة خلاصهما من "هم طال مداه، وأنه قد آن الأوان لحياة هانئة واستقرار سياسي"!
أجزم بأن اتفاق أوسلو لم يوصل الفلسطينيين إلى الحل المنشود، وأنه تحول، ولأسباب كثيرة ليس موقعها في هذا المقال، إلى كارثة. أما اتفاق وادي عربة فأترك لإخواني ورفاق النضال في الأردن لعقود طويلة أن يقدموا خلاصاتهم لتقييم ما جرى.
لقد حاولت، ومعي زملاء أعتز بهم، ونحن في لجنة الميثاق الأردني في بداية التسعينات، أن نقدم فهماً مختلفاً عما كان سائداً، وقلنا في النقاش حول العلاقة الأردنية - الفلسطينية مسألة جوهرية وأساسية لحل مشكلة الحاضر والمستقبل، وخلاصة ما قلناه في النقاشات آنذاك: "إن الفلسطينيين في الأردن هم مواطنون أردنيون لهم كافة الحقوق وعليهم كآفة واجبات المواطنة دون أن يخل ذلك بهويتهم الفلسطينية وحقهم في النضال من أجل العودة إلى وطنهم فلسطين وتنفيذ حقهم في تقرير المصير". فالمعادلة تكفل للفلسطينيين الأردنيين حقوقهم في المواطنة، ولا تحرمهم من حقهم في النضال من أجل العودة إلى وطنهم. فهل جرى تنفيذ واحترام ما تم إقراره في الميثاق الوطني آنذاك؟
المقال يتطرق إلى عناوين ومواقف عامة ولا يمكن معالجة هذا الموضوع ما لم ينقل الحوار من "الطوابق العليا" أي بين القيادتين الرسميتين، كما هو راهناً، إلى الحوار بين المكونات الشعبية الأردنية "أحزاباً ونواباً ومؤسسات ونقابات وشخصيات وطنية" وبين المكونات الشعبية الفلسطينية "قوى وأحزاباً ونواباً وفصائل" بهدف الوصول إلى تقييم دقيق لما هو قائم والخروج باستخلاصات وطنية ملزمة للجميع دون المس بالحقوق الوطنية للمواطنين الأردنيين بكل مكوناتهم، وبشكل خاص في الحفاظ على الدولة الأردنية كياناً سياسياً مستقلاً لأبناء الأردن، ودون المس أو التلاعب بالحقوق الفلسطينية لتقرير المصير والعودة وبناء الدولة المستقلة على الأرض الفلسطينية، وتحريم البحث راهناً في أي خيارات أخرى دون الهدفين السابقين. عندما يحقق الفلسطينيون استقلالهم الحقيقي فإن خياراتهم في الوحدة أياً كان شكلها لا يحققه الفلسطينيون بمفردهم، بل بموافقة أي طرف شعبي عربي في أي من الأقطار العربية المجاورة وبشكل خاص مع الأردن الشقيق، فهل يمكن فتح صفحة جديدة تنهي هذا الجدل الغرائزي الضار الذي يقلق البال ويزيد الهم هماً وينعش الشكوك وسوء الظن؟... ولنا عودة في الحديث عن هذا الموضوع لاحقاً.