تجدد الحديث عن "المفاوضات" الفلسطينية - الإسرائيلية وجمع الجانبين على طاولة واحدة بعد أن ملّ الفلسطينيون والمجتمع الدولي هذه المعزوفة التي تكررت على نغمة واحدة لأكثر من عشرين عاما متواصلة.
كان المغنيون ما قبل سيد درويش ثم عبد الوهاب يعتلون خشبة المسرح ويرددون بأصوات شدية "ياعيني.. يا ليل" طوال ليلة فيطرب المستمعون في الدقيقة الأولى والساعة الأولى فيتمايلون طربا في حركة بندولية لا إرادية. لكن مع تكرار نفس الصوت ينامون ولا يأبهون المطرب أو لجمهورهم النائم من حولهم.
وهذه هي حالنا مع تصريحات وزير خارجية بولندا الضيف الزائر لبلدن ومن خلفه دول أوروبا. فهو يدعو إلى العودة إلى طاولة المفاوضات للوصول إلى تسوية مع الجانب الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.
الوزير البولندي الضيف دعا إلى الثقة بين المتفاوضين للوصول إلى حل. هنا يكمن بيت الداء، فالسيد بنيامين نتنياهو أعلن صراحة في حملته الانتخابية أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية أبدا، لكنه عاد بعد فوزه بالانتخابات عن تصريحه الكاشف عن نواياه الحقيقية وكرر معزوفة أنه يلتزم "بحل الدولتين" ويضيف أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لإسرائيل، وأن الاستيطان سيستمر وينمو وأن الاحتفاظ بالأغوار والبحر الميت وما حولهما من جبال وشعاب ووديان ضرورة أمنية لإسرائيل، وأن مناطق (C) يجب أن تخضع لمتطلبات الأمن الإسرائيلي وفي مقدمتها التوسع الاستيطاني والانتشار الموسع لقوات الاحتلال للسيطرة على المدن الفلسطينية والريف الفلسطيني.
وبعبارة أوضح، بات شعار حل الدولتين بلا مضمون، بل من العبث أن يطرح على طاولة المفاوضات لأن حكومات إسرائيل المتعاقبة ماضية في مخططها العملي الذي يقوم على "الإمارات السبع" الذي يتحدث عنه بين حين وآخر البروفيسور الإسرائيلي اليميني موتي كيدار بلا لف ولا دوران.
فإمارة قطاع غزة باتت قائمة منذ ثماني سنوات ولا يربطها بالضفة أو القدس حتى حكومة صورية. اتفق عليها في جولات المفاوضات الفلسطينية –الفلسطينية التي باتت شبيهة بأختها الفلسطينية-الإسرائيلية بلا نتيجة ترجى، فهذه الحكومة لا تمارس من صلاحياتها شيئا رغم أنها حكومة "وفاق". وتحاول إسرائيل التي تسيطر على ماء وسماء وأرض إمارة غزة أن تعطي هذه الإمارة ممرا مائيا إلى العالم الخارجي مسيطرا عليه لتحافظ على بقائها، بعد أن لم تصل جهود ترطيب الأجواء بين حماس ومصر إلى نتيجة عملية بربط القطاع وإلحاقه بمصر.
والإمارة الثانية إمارة الخليل يجري تكريسها ورسم حدودها من قبل الاحتلال بفصلها من الشمال عن محافظة بيت لحم كنتيجة للتمدد الاستيطاني في "غوش عتصيون" وأفرات والاستيلاء على أرض ومبنى "مصح البركة" عند مدخل العروب على طريق بيت لحم-الخليل، ما ينشئ إمارتي الخليل وبيت لحم. حيث تنتهي حدود إمارة بيت لحم عند "حاجز الكونتينر" مفسحة المجال أمام إسرائيل للتمدد جنوبا وشرقا وشمالا باتجاه البحر الميت وأريحا والرام لتبدأ من عند الرام إمارة رام الله والبيرة التي ترسم حدودها وترسخ بين بيت إيل وبيتونيا.
وهكذا ترسم حدود إمارات نابلس وطولكرم وجنين، يحصر فيها المواطن الفلسطيني في كانتونات يغلق بواباتها متى شاء الجندي الإسرائيلي وتقتحمها دوريات حرس الحدود والجيش متى شاءت.
وأمام هذا الواقع الصادم كيف للمفاوض الفلسطيني أن يجلس على طاولة المفاوضات وكيف أن يتحدث عن دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967 عاصمتها القدس ليس أمامنا إلا الثبات كل في موقعه، السياسي على ثوابته والمواطن على أرضه والكاتب والمفكر والمعلم والرياضي على التزامه العضوي والاقتصادي على النهوض بالاقتصاد لمواجهة الإلحاق الاقتصادي.
وحسنا تفعل القيادة الفلسطينية حين تتمسك بالثوابت المرحلية، لا للحلول المؤقتة، لا لإمارة غزة ولا للإمارات السبع في الضفة، ونعم لدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية من حدود الرابع من حزيران، ونعم أيضا لمفاوضات جادة وذات مصداقية تؤدي إلى حل الدولتين على هذا الأساس.
كل ذلك لن يثني الشعب الفلسطيني وقيادته عن ملاحقة إسرائيل على جرائمها ضد شعبنا التي ترقى إلى جرائم متواصلة ضد الإنسانية منذ العام 1948 وحتى العدوان الأخير على قطاع غزة.
لقد باتت إسرائيل في عزلة دولية وعلاقتها بحاميتها وراعيتها الولايات المتحدة في أسوأ أحوالها منذ قيامها، وسئم الأوروبيون من صلف إسرائيل وغرورها فزادت مقاطعة الهيئات والمؤسسات الأكاديمية والفكرية والشركات لها.
لكن شعب إسرائيل المختار، أو "المحتار" يزيد من حصار نفسه باختياره، بإعادة انتخاب بنيامين نتنياهو والليكود وتمكينهم تشكيل حكومة ائتلافية مع أقصى اليمين، وعالم تتخلص إسرائيل من غرور القوة المتمثل بالاحتلال والاستيطان، وتنبذ التطرف والتعصب والعنصرية، فإن السلام في الشرق الأوسط سيظل بعيد المنال والجلوس على طاولة المفاوضات أمر عبثي.