بقلم: محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائريّ
عبر الخيط الذي تمدُّه يدُ السّلالة من مولاي الحضري بوزقزة، الضابط في ثورة التحرير، إلى ابنه جلال الذي درس في مدرسة أشبال الثورة وتخرَّج من أكاديمية شرشال لاحقا، والمعروف بلقلب كلونيل الزْبرْبرْ، إلى طاوس حفيدة الأوّل وابنة الثاني؛ يمتدُّ كذلك-في رواية"كولونيل الزبربر"للروائي الجزائري الحبيب السائح، الصادرة عن دار السَّاقي؛2015_تاريخُ الجزائر الحديث، من زمن الثورة، إلى الإستقلال، إلى المرحلة الدموية في تسعينيات القرن الماضي. كما يمتدُّ ذلك التاريخ، في وجهٍ مختلفٍ، عبر المذكّرات التي كتبها مولاي بوزقزة عن حرب التحرير، والتجاوزاتِ التي وقعتْ فيها من تصفيةٍ لرجال وطنيين ونساء مخلصات وتعذيب ممنهج، وسلَّمها لابنه جلال، كولونيل الزبربر الذي سيكتب هو الآخر مذكراته، ليتمَّ بشكلٍ رمزيّ ما بدأه والدُه في كتابة التّاريخ المغيّب، وليسلِّم كل ذلك على "فلاشْ ديسْك" لابنته طاوس، الحفيدة، التي يصلُ إليها تاريخٌ مغايرٌ فيه الكثير من الدَّم والجراح.
تستحضر الرواية أغنية البار عْمر الشهيرة"راس بنْ ادم"، وهي تحكي، القصيدة التي كتبها لخضر بن خلوف، حواريةَ الشاعر مع رأس وجدها. وسيطالع القارئ في نهاية كل مقطع سردي بيتًا مختارا منها يتناسب مع الرؤية أو الحسّ الدرامي الذي يقدّمه. وتبرير هذا التوظيف فنّيًّا هو ما ستجده الطاوس حين تفتح الفلاش وتقْرأ على الملف الثاني ما كتبه أبوها:"تصوّرتُ دائما أني تركت جمجمتي ورائي في جبل الزْبرْبر فعثر عليها شاعر"راس بن ادم" فكلّمها"(ص:17). ويمثِّل جبل الزْبرْبر هنا مكانا اشترك في الارتباط به الأبُ والابنُ، فالأوّلُ أثناء مشاركته في الثورة ضدَّ المستعمر، والثاني أثناء حربه ضد الجماعات الإرهابية التي خرَّبتِ الوطن واغتالتْ ابنَه ياسين. ليكون الجبل هنا حاضنا للدّم الجزائريّ مرةً في زمن الثورة وما سال فيه بسبب جرائم المستعمر والانتهاكات التي حصلت بين الثوّار، ومرةً أخرى في المرحلة الدموية. ولذا، ستجد طاوس، والقارئ، في شهادتيِّ الأب والابن"ما نهبتْه من تاريخ رجال الشرف أنانياتُ الساسة وزحزحتْه حساباتهم إلى عراء النسيان."(ص:18).
يقودُنا هذا التوظيف لكتابة يوميات الثورة ويوميات ما بعدها إلى التساؤُلِ عمن يكون راوي الأحداث، وبالنظر إلى كون الكولونيل سلَّم طاوس اليوميات في "فلاشْ ديسْك"؛ سيكون الرواي تارة الأبُ مولاي بوزقزة وتارة الإبن جلال، هذا على مستوى المكتوب. وسيكون الرواي دائما هو طاوس الحفيدة، لأنَّها تقرأ الشهاداتِ مما يجعلُ هذا العمل رواية القارئ بامتياز؛ رواية طاوس وهي تتعرَّف من خلال الأسطر ما تجهله، ويجهله الكثيرون من تاريخ الجزائر، تقرأ الفجيعة والدَّم والجراح. هذا ما يفسِّر ظهور صوتِها كتعليقاتٍ على بعض الأحداث دون إشارة إلى أنه صوتُ طاوس من الكاتب، بل السياق هو ما يؤكّد ذلك فقط، وأحيانا امتزاج صوتِها مع صوتِ الكلونيل أثناء سرد الأحداث.
تحتفلُ شخصيات الرواية بكثير من التألّم؛ فمولاي بوزقزة التحق بالجبل أيام الثورة ليترك خلفه عائلة يغيبُ عنها لسنوات، وليرى في الجبل، بين إخوته الثوّار، من التجاوزات في حق المثقفين الملتحقين بالثورة وفي حق رجالٍ مخلصين ما جعله يكتئب. والكولونيل جلال، إضافة إلى الحزن الذي أصابه بسبب ما يعرف من تاريخ الثورة، اشتعلتْ في قلبه غابة كآبة بسبب ما عايشه أيام الاستقلال من انحرافاتٍ سببها الساسة، وما شاهده من عنف في التسعينيات كانت اليدُ الجزائرية فيه تذبح الرقبة الجزائرية، وكان الخاسر الأكبر هو الوطن. أما طاوس، الحفيدة، فحزنها معقّد أيضا؛ فهي التي ظلّتْ تشتعل شوقا وخوفا كلما غاب الكولونيل أبوها إلى مهماته، والتي ستزداد حزنا حين تقرأ ما وصلها عن طريق أبيها من شهاداتٍ ستغيّر مجرى قناعاتها.
ورغم هذا الحزن والفجيعة، كان دائما هناك متسعٌ للحب، بل كانتِ المحبة هي الخرمُ الأوحدُ للنفاذ من باب الدَّم صوب الحياة. ولهذا يتمّ استحضار حبّ الكلونيل لباية، وحبّ حكيم لطاوس، كلما استُحضِر حب رقية لمولاي الزقزي. وكأنَّ الرواية تحاولُ القول:إنَّ ما أضاعَه جنونُ الحرب يستردُه وهجُ المحبة.