إبراهيم رحمة
ارتبطت في ذهن الفرد حيثما كان مفردة "التحرر" بالوطن، بالتراب، بالنضال، بالاستقلال.. وحيثما كان هذا الفرد فقد راح ينسج منها وبها ولها جملةً من المفردات تكاد تكون لازمة منها التحرير، الحرية (قد يتبادر للقارئ أن مفردة الحرية سابقة للتحرر وهذا خطأ فالفعل على الدوام سابق للمصدر) ومن جملة المفردات أيضا "التحررية" وهي صيغة موغلة إلى أبعد ما تكون معاني الثورية في هذا الباب.
وكشأن البشر في كل أمر يبتكرونه، كان لهم مع "التحرر" باع طويل وعريض، لم يصنفوا به فئات شعوبهم فقط بل زادوا على ذلك بتكوين المنظمات وأنشأوا المؤسسات وشرعوا الشرائع وسطّروا القوانين.
وأيضا كشأن البشر في كل أمر يبتكرونه فإنهم يميلون كل الميل به، ويخرجون عن مساره الأول وينحرفون، وهنا يبرز نوع جديد من الأفراد المتدخلين تماما مثل الطحالب الطفيلية، بل إن الطحالبَ خيرٌ منهم فهي التي تمد كوكبنا بما يكفي من الأكسجين على العكس من هؤلاء العالة الذين ظلوا من قبْلُ يَتَحيّنون الفرصة للانقضاض على هذه المفردة التي لا يرون فيها غير بقرة حلوب جديدة، ما عليهم سوى الحيلولة بينها وبين أصحابها الأصليين والحظْر عليها لتكون خالصة لهم.
كم أحنّ وأنا العربي ومثلي قد يكون كثيرٌ، إلى ذاك الزمن الجميل الذي كان يعبق بمثل هذه المفردات وهي بريئة، مفردات التحرر والنضال والوحدة والاقتصاد المشترك والدفاع المشترك. بل ومنذ خمسٍ وعشرين سنة وفي لحظة من الزمن قد تكون فارقة ولم نُقَدّرها حقّ قدرها، تم طرح فكرة الحكومة الواحدة للولايات المتحدة العربية والتي رآها آخرون ضربا من الخيال بل ومن الهرطقة، غير أن ما يهمنا في الأمر هو طرحها.
وبعد الخمس وعشرين سنة، كيف كان الحصاد؟..
هان الدم على الدم، وهانت العبرات، وكتلة اللحم العربي أرخص ما تكون، وتلك المفردات لم يعد لها من الوجود حتى رسْمُـها، والجيل الجديد يُـمْطِرك بالضحكات وعبارات الـهُزْءِ أنت الباقي من السابق، ويعتقد في هذه المفردات لو صادفها أنها مجرد ترسّبات بركانية من حكايات الجدّات في ليالي الشتاء الباردة وقتما لم تكن كهرباء.
هل كنا على ضلالة حينما اعتقدنا بما يسمى وحدة الدم العربي؟ بينما الحقيقة إننا مجرد قطيع من العشائر المتناثرة هنا وهناك لا يربط بينها غير اللهفة على كلأ مُصْفَرّ مُتَيَبِّس وبقية ماء آسن؟.. كيف يقنعني أحدهم ،كائنا من كان، أن هذا الجنس البشري الذي نحن جزء منه هو وحدة واحدة؟.. وأنا أرى أنهار النيل ودجلة والفرات وما فوقها وما تحتها لم تسودّ بفعل حبر ذات مرة، بل احمرّت بفعل دم هذه المرة..
كيف يقنعني أحدهم وأنا أرى أمـما أخرى نقول عنها إنها "شنآن بينها" وليس بينها رباط وتتحدث مئات اللغات واللهجات، أراها تتحد في العملة والجيش والمواطنة بل وفي الرؤية أيضا؟.. أم يا ترى على عيننا العربية نظارة تعطي عكس ما يسقط عليها فنرى ما ليس بكائن؟..
يتعب القلم من الكتابة في الزمن العربي، يتعبه المثقف والسياسي والوصولي بينهما، ففي كل مرة يسقط في خطأ التنظير العربي، والذي هذه المرة ومنذ عقود نظّر للتحرر والتحررية كتراب وأهمل التحرر والتحررية للذات العربية لتستمر بذلك آية التفاهة..
*مدينة بسكرة - الجزائر في 13 يونيو 2015