صورة، تناسلت بعدها صور كثيرة تُحايث تصريحات تعج بالإرادة والعزيمة والتضحية غير المسبوقة. أما الصورة فهي لدبابة صهيونية داخل منطقة 48 المحتلة، يعتليها مقاتلون من حماس، يرافقهم مدنيون اندفعوا متحمسين، يسحبون جندياً صهيونياً من جوف الدبابة. وجه الجندي الطفولي تلوّن بلون الموت فقد كسته علامات الرعب. ألقوا به من أعلى الدبابة إلى الأرض و(شحطوه) على الأرض. كان السائد في الوعي صورة معكوسة: جنود صهاينة يدوسون بأقدامهم معتقلاً فلسطينياً، أو امرأة عجوز يطردونها من أمام بوابة المسجد الأقصى مانعين دخولها بجرها على الأرض.
تتابعت الصور والفيديوهات والتي بدأ المثلث الأحمر بتزيينها، وبدأت معها تصريحات أبو عبيدة التي تعج بالإرادة والتحدي والنديّة، ترافقها موجة من المصطلحات الجديدة على الشعب الفلسطيني، خاصة غير العسكريين منه، وهم أغلبيته الساحقة: الياسين 105، عبوة الشواظ، العبوة التلفزيونية، التاندوم، العبوة البرميلية، العقد القتالية. كانت المقاومة، وعبر تلك الصور والمصطلحات وأبو عبيدة تفتتح عهداً جديداً من الثقافة.
لقد نحت بودريار عالم الاجتماع والإعلام الفرنسي مصطلح (الواقع المتخيّل) عبر تحليله للصور التي نشرتها شبكة الـ CNN لغزو العراق، ليعلن استنتاجه النظري أن ما شاهده المتابعون للتلفاز ليس الغزو الأمريكي للعراق بل ما بثته الـ CNN ، ليستخلص أن الصورة، ولمّا تصنع المشهد، فهي أيضاً تصنع الثقافة، وهكذا فعلت صور7 أكتوبر وما بعده.
كان العقل العربي والفلسطيني وبعد الخامس من حزيران من العام 1967 قد تملكته قناعة أن جيش الكيان الصهيوني جيش لا يقهر. فعلاً. كيف سيُقهر جيش استطاع في 6 أيام هزيمة 3 جيوش عربية، واحتلال أقسام واسعة من أراضيها، واستكمال استعماره لفلسطين. كل ذلك في 6 أيام. 6 أيام فقط سجّل العدو فيها توقيعه على هزيمة ثلاث دول عربية واستقر مستعمراً متيقناً بعجز عربي مزمن.
ورغم ما سبق العام 1967 من صمود ومقاومة بطولية عند قناة السويس، تصدياً للعدوان الثلاثي في العام 1956، ورغم ما لحق العام 1967 من بطولات الجنود الأردنيين والمقاتلين الفلسطينيين في معركة الكرامة من العام 1968، ولاحقاً بطولات الجندي العربي في حرب أكتوبر من العام 1973، وبعدها الثورة الفلسطينية في العام 1982، لم تتراجع مقولة الجيش الذي لا يقهر من الذات والنفسية العربية والفلسطينية. حتى عندما تمكنت المقاومة اللبنانية، الوطنية والإسلامية، من دحر العدو من الجنوب اللبناني، بدا وكأن (القناعة) بأن مقولة (العدو عصي على الانكسار)، قناعة راسخة لا تتزعزع. كأن استبطان الهزيمة والوعي المهزوم بلغ تشبثهما بتلابيب النفسية الداخلية والوعي الداخلي حداً يصعب معه اقتلاعهما.
واستبطان الهزيمة لا شأن له بمقولة ابن خلدون حول ولع المغلوب بتقليد الغالب إلا من زاوية قراءة معوجّة غافلة. فالمغلوب حسب ابن خلدون إذ يقلد الغالب، فهو يسعى للأخذ بأسباب القوة التي مكّنت الغالب، لكي يتمكن المغلوب من المنازلة مرة أخرى بالأخذ بتلك الأسباب.
القراءة المعوجّة الغافلة لم ترَ للمغلوب سوى رجع صدى لقوة الغالب، مفعولا به لا يقوى على منازلة الفاعل، وجود ردة فعل لا فعل. ألم يقل بعض باحثي العدو مرة إن الشعب الفلسطيني ما نشأ ولا وُجد إلا بفعل الوجود الصهيوني في فلسطين، وكأننا قبلهم لا شيء، مجرد مجموعات بشرية تتناسل بيولوجياً وتعيش يومها، لا كيان سياسي وحضاري واجتماعي واقتصادي، فتمادوا في القول: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأكملتها عجوزهم الفاشية الشمطاء غولدا مئير بالزعيق متسائلة: أين هو الشعب الفلسطيني؟
الصورة وبعدها صور وفعاليات وبطولات، وجهت ضربة قاسمة للاستبطان ذاك. كانت ردة الفعل الأولى، على المستوى الشعبي، كما على مستوى الكتابات الصحفية والتعليقات السريعة: نعم يمكن هزيمتهم. وكأنني بحدث السابع من أكتوبر وما تلاه كان بمثابة لحظة تحول تاريخية من ثقافة لثقافة، من وعي لوعي، فتراجعت القراءة المعوجّة الغافلة لمقولة ابن خلدون، وانهزم (الفكر اليومي) حسب تعبير المفكر الراحل مهدي عامل، فكر الهزيمة.
نعم يمكن هزيمتهم. وإذا كان الصهاينة فعلا يستندون في قوتهم لقوة الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية الداعمة والمشاركة في حرب الإبادة، والمغطيّة سياسياً لها، ولكن تم استخدام تلك الحقيقة كمدخل لتبرير الاستبطان. (يا عمي إحنا بنحارب أمريكا والغرب كلهم) (الكف لا تلاطم المخرز) (إسرائيل رقم 4 في العالم في التقنية العسكرية) (إسرائيل رقم 18 في قوة جيشها) (إسرائيل هزمت كل العرب بدنا إحنا نهزمها). هذه الجمل وغيرها كانت لسان حال الوعي المهزوم الناشئ عن استبطان الهزيمة، وهي قامت بدورها لتبرير ذلك الوعي وذاك الاستبطان. دائما ما كان الفكر والوعي اليوميين يلجآن لتبرير ما يجترحان.
ولكن هل منشأ هذا الوعي وذاك الاستبطان فقط ما حدث من هزيمة في العام 1967 كلحظة تاريخية مريرة أيما مرارة.؟ بالقطع لا، وهذا ما تنبه له كل مَنْ كتب معالجاً الحالة الفلسطينية منذ العام 1993 عام التوقيع على اتفاقيات أوسلو وملاحقها.
لم يكن أوسلو محض اتفاقيات سياسية يتبعها ملحق اقتصادي (اتفاق باريس)،ـ ليلحقه ملحق واي ريفر الخاص بالتحريض والتعليم و(بناء جسور الثقة) في العام 1996. كان الاتفاق باعتباره مرحلة فارقة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني يؤسس لثقافة جديدة قوامها بمنتهى البساطة: الاستعاضة عن المقاومة والعمل المسلح الذين تقتضيهما معركة التحرر الوطني، بالحوار والتعايش والمفاوضات مع العدو، فكان من أهم ترتيبات تلك المرحلة على مستوى النفسية الفلسطينية إن جاز التعبير، دوريات فلسطينية/ إسرائيلية مسلحة (لحفظ الأمن)، والتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تشكلت وفق الآليات والضوابط المتفق عليها بين الطرفين، وبين أجهزة العدو وجيشه.
ماذا كان يعني هذا على مستوى الوعي والثقافة؟ الاستعمار لم يعد استعماراً بل طرفاً يجري التفاوض معه لحل مسائل عالقة! (الحدود، المياة، الاستيطان، حدود الدولة....)، وعليه فلسنا أمام حركة تحرر فلسطينية للتحرير والعودة، بل أمام سلطة تشكلت عبر الاتفاقيات تنظم الحياة المدنية بمراقبة حثيثة من الاحتلال. كل ذلك له تداعيات على الوعي والثقافة لتُستمكل تلك التداعيات بحفنة من مفاهيم الليبرالية الجديدة والتي قوامها الفردانية بتعبيراتها: الخلاص الفردي والانشداد للمصالح الفردية، والمشاريع الفردية، مغلّفة بترسانة من (الموضات الفكرية) حسب تعبير سمير أمين من نوع: الديمقراطية والحوكمة والشفافية وحقوق الإنسان. كل ذلك يتطلب إدارة الظهر للقيم النقيضة: الجماعية والتضحية والمقاومة.
أن تجتمع مكونات تلك الثقافة الناشئة مع أوسلو، وتغذيها الأيديولوجيا الليبرالية السائدة المبثوثة عبر الإعلام وأجهزة الثقافة والتعليم، مع ثقافة الهزيمة ما بعد العام 1967 فسنكون أمام استبطان للهزمية وللوعي المهزوم. حينها يكون التشوه الأيديولوجي قد اكتمل.
ومع ذلك، وكي لا يأخذنا الشطط بعيداً، فينبغي الاعتراف أن مكونات ذلك الاستبطان ما زالت قائمة، رغم اعتراف العدو عبر مسؤوليه بعدم تحقيق أهدافه في القطاع ولبنان، ورغم غرقهم في وحل المقاومة في الجنوب اللبناني وفي القطاع. المكونات الثقافية لا تندحر ببساطة، وذلك حال الثقافة إجمالا كمنتج بشري، وهذا درس التاريخ.
طريق جديد بدأت ثقافة المقاومة بشقه منذ السابع من أكتوبر وتستمر بتعبيده في مواجهة استبطان الهزيمة والوعي المهزوم، ومزيد من المقاومة ومن البطولات، وهذا المؤمل، كفيلة بدحر لا عودة عنه لذاك الاستبطان وذلك الوعي.