أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى لدى المحكمة الجنائية الدولية، يوم الخميس بتاريخ 2024/11/21, أوامر قبض ضد كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بعد مرور ستة أشهر كاملة على إعلان المدعي العام للمحكمة كريم خان، يوم الإثنين بتاريخ 2024/5/20، عن تقديم طلبات إلى الدائرة التمهيدية لإصدار أوامر القبض ضدهما.
كما وأصدرت أمر قبض ضد القائد العام لكتائب القسام محمد دياب إبراهيم المصري (المعروف باسم الضيف) فيما سقطت الدعوى الجنائية عن كل من يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة واسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
وهذا الإجراء (سقوط الدعوى الجنائية بالوفاة) يتم في هذه المرحلة بقرار من الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة بناء على إخطار رسمي من المدعي العام. ولا يقين لدى المدعي العام كريم خان بوفاة "الضيف" مما أدى إلى إصدار أمر الاعتقال ضده.
الواضح من تتبع أوامر الاعتقال الصادرة عن الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة أن استجابتها للتهم الجنائية التي وردت في طلبات المدعي العام خان في الدعوى الجنائية ضد نتنياهو وغالانت قد (تقلَّصت) إلى جرائم "التجويع" و "استهداف المدنيين" كجرائم حرب إلى جانب جرائم القتل والاضطهاد وأفعال لاإنسانية ذات طابع مماثل كصور من الجرائم ضد الإنسانية.
وفي المقابل، فقد حافظت التُهم الموجهة للضيف على زخمها والتي تتمثل في الإبادة Exterminationكجريمة ضد الإنسانية وهي تختلف عن جريمة الإبادة الجماعية Genocide، والقتل كجريمة ضد الإنسانية، وجريمة الإغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي كجرائم ضد الإنسانية أي بمعنى أنها قد ارتُكبت على نحو واسع النطاق أو ممنهج، علاوة على جرائم الحرب المتمثلة في جرائم القتل والتعذيب وسوء المعاملة واحتجاز الرهائن والاعتداء على الكرامة الشخصية والاغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي.
مع الأخذ بالاعتبار؛ أن المدعي العام للمحكمة كريم خان كان قد تقدَّم أساساً بطلبات للدائرة التمهيدية الأولى في 2024/5/20 لإصدار أوامر قبض ضد قادة فلسطينيين "بثمانية جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب" بناءً على أدلة اتهام لديه منذ السابع من أكتوبر 2023، في مقابل "سبع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" ضد مسؤولين إسرائيليين تقلَّصت مع قرار الدائرة التمهيدية الأولى.
لا يبدو أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، مُقتنع حتى الآن بوجود أدلة كافية لإثبات تورط قادة ومسؤولي الاحتلال الإسرائيلي السياسيين والعسكريين، بما يشمل نتنياهو وغالانت، في ارتكاب جرائم إبادة جماعية (Genocide) بعد أكثر من عام على الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، خصوصاً في شمال القطاع، والتي تتجسد في صورها الأربع الواردة في المادة (6) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وأركانها المحددة في وثيقة أركان الجرائم (ICC-ASP/1/3) لدى المحكمة.
ولا يبدو أنه مقتنع بوجود أدلة على وقوع جريمة التهجير القسري "المتكررة" التي طالت نحو "2 مليون إنسان" في قطاع غزة وتقع في صدارة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت بشكل واسع النطاق وممنهج منذ بداية العدوان.
ولا يبدو أن خان مقتنع بوجود أدلة على ارتكاب جرائم التعذيب والاحتجاز التعسفي الذي طال أكثر من "15 ألف" أسير ومعتقل فلسطيني في سجون ومعسكرات الاحتلال علاوة على جرائم الاختفاء القسري التي تُصنّف كجرائم ضد الإنسانية.
وبالمثل، لا يبدو أن كريم خان مقتنع بارتكاب جرائم "الاضطهاد" و"الأبارتهايد" رغم تجذرها العميق وأشكالها واسعة النطاق (الهائلة) في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وفي المقابل، فإنَّ المدعي العام كريم خان ومعه الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة مقتنعون بوجود أدلة كافية على ارتكاب قيادات فلسطينية جرائم "اغتصاب" بل وتكييفها على أنها "جرائم ضد الإنسانية" أي أنها ارتُكبت على نحو واسع النطاق وممنهج.
علماً أن المدعي العام كريم خان وفريقه لم يدخلوا إلى قطاع غزة لإجراء تحقيقات ميدانية منذ بداية العدوان، واكتفوا فيما يبدو بمصادر ثانوية من سجلات طبية، تسجيلات، مقابلات، وبعض البيانات باسم الأمم المتحدة، ومنها استنتج كريم خان وجود"أدلة موثوقة" على ارتكاب جرائم اغتصاب وعنف جنسي، على نحو واسع النطاق وممنهج، وأيدته الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية في هذا الاستنتاج.
لا يبدو من سياق أداء المدعي العام للمحكمة الجنائية، كريم خان، الذي قدّم "ثلاثة" طلبات للدائرة التمهيدية الأولى لإصدار أوامر قبض ضد قادة ومسؤولين فلسطينيين "بثمانية" تهم بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب (الأولى أشد من الثانية) مقابل طلبين للدائرة التمهيدية "بسبعة" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تقلَّصت بعد نظرها أمام الدائرة التمهيدية، أنَّ خان سيكتفي بمعادلة (2 مقابل 1) وقد يطلب إسقاط الدعوى عن "الضيف" حال ثبت له وفاته. وعلى الأرجح أن كريم خان وفريقه"سيعصرون" الفضاء الرقمي لأجل متابعة أية "تصريحات" تصدر عن مسؤولين فلسطينيين (قد يصبحون مُتهمين مُستقبلاً) وإجراء مُطابقات جنائية لإثبات "الركن المعنوي" للجريمة الدولية وربطها بأدلة مادية وظرفية لاستكمال "أركان الجريمة " وتغيير معادلة (2 مقابل 1 مُحتمل) لمعادلة "أكثر توازناً" قياساً على حجم التهم المُسندة للقادة الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين.
لا يختلف أحد على حجم الضغوطات التي مُورست على كريم خان، رغم عِلمه الجيد بمن كان وراء دعمه للفوز بمنصب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في اجتماع الدول الأطراف في المحكمة، دون التقليل من براعته في مجال القانون الجنائي الدولي.
والضغوطات التي تعرض لها قضاة الدائرة التمهيدية الأولى للمجكمة، ليس فقط من إسرائيل والولايات المتحدة عبر النفوذ السياسي والدبلوماسي الواسع، وإنما أيضاً من دول أوروبية تُعد من أكبر المساهمين الماليين الداعمين للمحكمة الجنائية الدولية وميزانيتها السنوية؛ وأبرزها "ألمانيا" وبريطانيا وهولندا وفرنسا والسويد.
عِلماً أن "ألمانيا" هي الدولة الوحيدة التي تقدمت باعتراض "رسمي" على طلبات المدعي العام خان أمام الدائرة التمهيدية بإصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت بجرائم دولية. ألمانيا استغلت وضعها كعضو في نظام روما لتقديم "دفوع قانونية رسمية" ضد طلبات المدعي العام بإصدار مذكرات التوقيف (مسائل الاختصاص والتكاملية) وبذلك تصبح الدائرة التمهيدية "ملزمة" بالتعامل رسمياً مع تلك الدفوع التي تستهدف المماطلة والتسويف وعرقلة الإجراءات القانونية.
فيما الدول الأخرى والمنظمات الحقوقية انخرطت في القضية تحت عنوان أصدقاء المحكمة (Amicus Curiae) وهو انخراط، مُختلف تماماً، لأن المذكرات القانونية المقدمة تحت هذا العنوان هي تدخلات غير رسمية تهدف إلى تقديم رأي قانوني أو استشاري ولا تتمتع بالقوة القانونية الملزمة التي تتمتع بها الدفوع الرسمية أمام الدائرة التمهيدية.
ألمانيا قدمت دفوعها، كطرف رسمي مَعني بالقضية، وليس مُجرد صديق للمحكمة. الدفوع الألمانية الرسمية، وسيل المذكرات القانونية (أصدقاء المحكمة) انهالت على الدائرة التمهيدية للمحكمة من الدول والمنظمات الحقوقية بين مؤيدة لطلبات المدعي العام للمحكمة كريم خان بشأن طلبات الاعتقال للمسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبين معارضة لطلبات المدعي العام بشأن طلبات الاعتقال للمسؤولين الإسرائيليين (فقط) تحت عناوين ومسائل متعددة تتعلق باختصاص المحكمة والولاية الإقليمية وأوسلو ومبدأ التكاملية في عمل المحكمة .. وغيرها.
وكانت فرصة سانحة، فيما يبدو، لقضاة الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة، للتعامل مع الدفوع الألمانية وسيل المذكرات القانونية وإنْ كان العديد منها أشبه بالحركات البهلوانية على أن "جميعها دفوع رسمية تحت الإجراءات القضائية" وهذا ما يُفسّر المسافة الزمنية (نصف عام) بين طلبات المدعي العام خان واعتمادها من الدائرة التمهيدية الأولى، وقد كان بالإمكان أن تمتد زمنياً أكثر من ذلك بكثير.
لا يحتاج الأمر للكثير من العناء لمعرفة أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان قد تقدم بطلبات لإصدار أوامر اعتقال إلى الدائرة التمهيدية الأولى لدى المحكمة؛ ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومفوضة حقوق الطفل الروسية ماريا لفوفا بيلوفا Maria Lvova-Belova بتاريخ 2023/3/17 بتهم تتعلق "بالنقل القسري" للأطفال الأوكرانيين إلى روسيا، وصدر قرار الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة بإصدار أوامر القبض ضد بوتين وبيلوفا بتاريخ 2023/3/18 أي بعد "يوم واحد" فقط من طلب المدعي العام من الدائرة التمهيدية إصدار مذكرات القبض.
وهو إجراء غير معتاد نهائياً في السوابق القضائية للمحكمة في مسار التحقيقات الجنائية بجرائم دولية ذات طبيعة مُعقدة في الإثبات الجنائي وتحري موثوقية الدليل.
لا أُقلل من الأهمية الرمزية لأوامر القبض ضد كل من "بنيامين نتانياهو" وغالانت من الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتُكبت في قطاع غزة (غيتو غزة) في خِضم أزمة العدالة الدولية بعد ما يزيد على عام كامل من الإبادة الجماعية المستمرة داخل غيتو غزة. وإنْ كانت الإدانة تحتاج سنوات طويلة من اعتماد للتهم وإجراءات محاكمة وطعونات وصولاً للإدانة.
وفي المقابل، لا حاجة للاسترسال في تخيُّل "الإنتصارات التاريخية" باستعراض آثار تلك المذكرات على المستوى السياسي والدبلوماسي والتنقل بين الدول وبقاء "نتنياهو" وغالانت تحت سيف أوامر القبض سنوات طويلة والتعاون الدولي للقبض ونظام المحكمة وعزل إسرائيل وفرض العقوبات ... ومن ثم اكتشاف أن جرائم الإبادة الجماعية ما زالت مُستمرة. ولاحقاً اكتشاف أن ظروفاً نضجت وأدت لاستخدام " النصوص الرخوة" في نظام المحكمة وطيّ الملف كاملاً.
ويبقى السؤال: هل أوامر القبض الدولية جاءت في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية المستمرة أم مواجهة شخص نتنياهو؟ لن ينجح قادة الإبادة الجماعية (الإدارة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية الوازنة) في هذا الاستهداف تحت غطاء المحكمة وقراراتها، وما يُرافقها من تهريج سياسي عبر الإعلام، في إيصال رسالة رجاء إلى نتنياهو "المُستهدف" الذي يستمر في سياسة التجويع والتقتيل والتهجير بلا نهاية، بضرورة السعي لإيجاد مشروع سياسي يُشاركه مع قادة الإبادة الجماعية، التي يُنفذها المُستهدف، وعدم الإمعان في عقيدة تحقيرهم والمحكمة.