توضيح: الفكرة المركزية في هذه المقالة، مستلّة اساساً من دراسة علمية نتطلع لنشرها، أعددتها أنا وأبنتي الباحثة أنمار بعنوان (القاموس اللغوي الغربي للإبادة الجماعية: تحليل سوسيو/ سياسي للخطاب الغربي). وهي كما ينبيء عنوانها توضّح، عبر تحليل هذا الخطاب على مدى 6 شهور منذ بدء حرب الإبادة، هذا القاموس اللغوي، الذي تعزز، وليس فقط لم يتغير، بعد 13 شهراً من تواصل تلك الحرب.
ليس هناك ما يبعث على التقزز أكثر من تتبع الخطاب الإمبريالي الغربي، وخاصة الأمريكي، سوى الصهيوني قطعاً، في تسويق الموقف المعادي لشعبنا والمبرر للإبادة، والساعي لتغطيتها بشكل وقح. على مدار 13 شهراً من تتبع هذا الخطاب يمكن سرد عدد من الجمل/ الصياغات، باعتبارها القاموس اللغوي للغرب الإمبريالي، والأمريكي خاصة، ولعل من أبرز هذه الجمل/ الصياغات "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" "لا لوقف إطلاق النار" "ضمان إدخال المساعدات الإنسانية"، "حماية المدنيين"، فما يبدو تناقضاً شكلانياً في الحقيقة ما بين "المعونات الإنسانية وحماية المدنيين" وبين "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ولا لوقف إطلاق النار"، هو في الحقيقة خطاب صيغ بطريقة تستهدف التمويه المخادع عبر الخطاب على الممارسة، بغية استمرار المشاركة في الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، وبالتالي كانت الصياغة تلك مصدراً مؤكداً للتقزز من الخطاب وحامليه على اختلاف تلاوينهم، من سياسيين وإعلاميين. آخر جمل/ موقف هذا القاموس هو اعتبار أن محكمة الجنايات الدولية لا صلاحية لها لإصدار مذكرات لاعتقال نتياهو وغالانت، فيما قبل سنوات كانت ذات المحكمة الجنائية تملك الصلاحية، بل وشجعتها أمريكا على ممارستها، لإصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين مثلاً. إنه التقزز يتكرر في كل محطة/ موقف.
أما أن هذا التناقض الشكلاني ملازم لكل مشروع الرجل الأبيض العنصري منذ انطلاقته في القرن السادس عشر، فلا ينقص هذا الاستنتاج الدلائل. تكفي الإشارة إلى أن هذا الخطاب الذي جمع شعارات/ أهداف من نوع: الرسالة الحضارية، تمكين الشعوب من إدارة شؤونها، التمدين والتحديث، وعبر الثيمات الخرافية/ الأسطورية (أرض الميعاد وشعب الله المختار) كلها تزامنت، بل وغطّت عقائدياً، على الممارسة العنصرية الفعلية: إبادة فعلية للملايين من السكان الأصلانيين في الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا، واستعباد الملايين في أفريقيا، وتدمير حيواتهم وشحنهم لمواقع الإنتاج في أوروبا والمستعمرات. لم يكتفِ الرجل الأبيض بذلك، بل محا الهوية الثقافية والدينية لمن تبقى منهم، نصّرهم وغير أسماءهم وأسماء عائلاتهم في إبادة موصوفة لهويتهم وتاريخهم، ومنحهم في الأمريكيتين الاسم الذي يريد: الهنود الحمر، شطباً لأسماء قبائلهم، وتلك إبادة وصفها منير العكش في سلسلة دراساته النوعية حول الإبادات في التاريخ.
إذاً، فهذا الجمع بين الشعارات البرّاقة و"الإنسانية"، وممارسات الإبادة، ليس بجديد على الغرب الإمبريالي، بل وبلغت الوقاحة التاريخية المستفزة حد نصب تمثال للحرية على مشارف ساحل نيويورك الذي يصله المهاجرون، فيما هؤلاء المهاجرون بنوا منذ القرن السادس عشر عشر، حريتهم وديموقراطيتهم، على جماجم الملايين من السكان الأصليين، وعلى استعباد الملايين من الأفارقة، ناهيك عن الجرائم الأمريكية الموصوفة في كل بقاع العالم خاصة، بعد منتصف القرن العشرين، وبغطاء كاذب يمثله تمثال الحرية.
تلك الاستمرارية التاريخية في الجمع المشار إليه بين الشعارات البرّاقة والمخادعة وبين الممارسة الفعلية للإبادة، هي الفكرة الرئيسية التي تتناسل منها الفكرة التالية.
إن اعتبار المشروع الصهيوني الأبيض الأشكنازي في فلسطين وليد للمشروع الأوروبي الأبيض في القرن التاسع عشر هو ما يجعل العلاقة بين المشروعين علاقة أيديولوجية، تغلف العلاقتين السياسية والاقتصادية، وتمنحهما بعداً عقائدياً بارزاً وموثوقاً، وتلك القضية موضع مقالة لاحقة. هذه العلاقة الأيديولوجية هي التي دفعت بالقوى الإمبريالية للانخراط بقوة، ومنذ اليوم التالي في 8 أكتوبر، دفاعاً عن الكيان الذي اهتزت فرائصه جدياً في السابع من أكتوبر، وبات مستقبل وجوده موضع تساؤل حقيقي.
هذا الانخراط بقوة في حرب الإبادة تلازم معه اعتماد ذات الشعارات البرّاقة التي غدت جزءاً صميمياً من القاموس اللغوي للرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي، ولكن هذه المرة بتلازمها مع الانخراط في إبادة الشعب الفلسطيني عبر مظاهر مختلفة لا تتوقف عند حدود الدعم السياسي والقانوني في المحافل الدولية، بل ولتصل حدود التزويد بكل أنواع الأسلحة التدميرية، والذخائر والعتاد والخبراء والمعلومات الاستخبارية.
سبق لأورسولا فون ديرلاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أن وصفت جهود الصهاينة في فلسطين، في رسالة للكيان الصهيوني لمناسبة (استقلاله)، أي لمناسبة نكبة شعبنا وتهجيره، بأنه جهد حوّل الصحراء لواحة خضراء!، أما جوزيف بوريل ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فقد عقد المقارنة بين الحديقة الأوروبية، الغنّاء قطعاً، والأدغال خارجها والمحيطة بها!!!! أي كل شعوب العالم الثالث، في تكرار ممجوج وعنصري لذات فكرة المركزية الأوروبية العنصرية. لم ينفع بوريل إنكار ذلك الربط بعد ذلك، بين ما قال وبين المركزية الأوروبية، فلسانه نطق ما بدواخله، كما أن هذا الانحياز السافر لدولة الإبادة لم يمنع الصهاينة عن إهانته برفض استقباله لمجرد أنه طالب "بفحص موضوع استمرار تزويد إسرائيل بالأسلحة على ضوء ما يجري في غزة". لم يدرك بوريل وغيره من العنصريين البيض، الذين يصحو بعض من ضميرهم أحياناً، ولمدة وجيزة، المستوى الذي يمكن أن تبلغه العنجهية والوقاحة الصهيونية، رغم أنهم يعرفونها عن قرب وعايشوها، فبوريل تطوّع وهو شاب ليخدم في إحدى كيبوتسات المشروع الصهيوني ويفترض أنه وقف جيداً على مستوى عنجهيتهم العنصرية.
لذلك، من المفهوم أن تستخدم الإمبريالية الغربية، والأمريكية تحديداً، ذات المخزون من الشعارات البرّاقة و"الإنسانية" الكاذبة في تغطية مشاركتها في الإبادة، فهي لم تفعل سوى أنها كانت مخلصة لتاريخها في الكذب حد الوقاحة، وفي تمويه وتغطية الجرائم الأبشع في التاريخ، بمروحة من الشعارات البراقة و"الإنسانية".
إننا نخلص إلى أن ما يمكن اعتباره النتيجة الأهم أن الانحياز الغربي وتمويهه بالشعارات البرّاقة و"الإنسانية"، هو تعبير عن الجذر العنصري المشترك بين الرجل الأبيض الأوروبي الاستعماري، وبين الرجل الأبيض الصهيوني الأشكنازي، وبالتالي فإن انحياز الدول الغربية للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، بل ومشاركتها بها، لا ينفعهم تمويهه بخطاب مخادع حول المعونات الإنسانية وحماية المدنيين. إن هذا الخطاب، وبتلازمه مع الممارسة الفعلية للإبادة، لا يمكن إلا أن يثير التقزز كما حال الإمبريالية الغربية، ووليدها التاريخي الكيان الصهيوني.