القصد من هذه المقالة، ليس زيادة البؤس أو التشاؤم، وإنما رصد دلالات الواقع الاقتصادي الحقيقي والإقرار بحقيقة التدهور والتراجع غير المسبوق الذي أنتجته حرب الإبادة، وذلك بهدف توصيل رسالة واضحة للمجتمعين الدولي والفلسطيني بعدم القفز عن الأولويات الحالية والملحة، والابتعاد عن الشعارات الاقتصادية الجذابة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
الاقتصاد الفلسطيني ما قبل حرب الإبادة وما بعدها
ما قبل حرب الإبادة الجارية حالياً، رصدت العديد من الدراسات والمقالات في السنوات الثلاثين الماضية (بعد اتفاقية أوسلو) المشهد الاقتصادي الفلسطيني المتقلب وغير المستقر، وكان نتيجة هذا الرصد أن هناك وضعاً اقتصادياً فلسطينياً يعيش في حالة من الصمود المتواصل، مع إضفاء قليل من الأمل لإحداث تنمية اقتصادية فلسطينية على الرغم من التشوهات الهيكلية للاقتصاد الفلسطيني، الناجمة عن سياسات الاحتلال، الذي لم يتوانَ عن اتباع أية سياسة من شأنها تقويض التنمية الفلسطينية. إذ بدأت أزمات الاقتصاد الفلسطيني بالتفاقم بعد العام 2000 بسبب السياسات الإسرائيلية المشددة، التي حدت من قدرة السلطة على اتخاذ السياسات الاقتصادية اللازمة، ما زاد من هشاشة الاقتصاد الفلسطيني وضعفه، وزاد من تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي، واستمر هذا التراجع بشكل متوازن حتى العام 2006 (أي لم يؤدِّ إلى الانهيار الاقتصادي)؛ ذلك أن قطاع غزة بقي يشكل حوالي ثلث الاقتصاد.
هذه الثلث في المساهمة بدأ يتلاشى تدريجياً مع كل صدمة جديدة لقطاع غزة، حيث تلقى اقتصاد قطاع غزة سبع صدمات اقتصادية منذ العام 2000 وحتى اليوم، ابتداءً من انتفاضة الأقصى والقيود المشددة عليه، والتبعات الناجمة عن الانقسام العام 2007، ومن ثم خمس حروب أخرى، آخرها حرب الإبادة الدائرة حالياً، وكل ذلك يندرج في إطار إغلاق وحصار شبه شامل على قطاع غزة منذ 18 سنة، وكانت النتيجة أن مساهمة اقتصاد قطاع غزة وصلت إلى 17% فقط قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. فكانت النتائج تراجع أكثر من 70% من قدرات قطاع غزة الاقتصادية، وهذا التأثير لم يقتصر على قطاع غزة فحسب، بل انسحب، أيضاً، ليؤثر على الضفة الغربية، ولكن بوتيرة أقل، وقد أكد الخبراء الاقتصاديون، إضافة إلى التقارير الأممية والدولية، على أن الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد مزقته الحروب، مع خضوعه لتبعية سلبية للاقتصاد الإسرائيلي، الأمر الذي حد من نموه وجعله أسيراً للسياسات الإسرائيلية المعطِّلة والمحبطة لأي مسار تنموي.
خلال حرب الإبادة هذه، جرى تدمير لا مثيل له للاقتصاد الفلسطيني في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، بحيث سجلت مؤشراته أكبر هبوط في التاريخ الحديث، إذ وصلت مستويات البطالة في قطاع غزة إلى أكثر من 85%، وفي الضفة إلى 36%، وذلك بسبب تعطل ملحوظ للقطاعات الإنتاجية الفلسطينية، ووقف العمالة في إسرائيل، الأمر الذي رفع مستويات الفقر بشكل غير مسبوق لتصل في المجمل إلى 60% في الأراضي الفلسطينية كافة، مع ملاحظة أن 70% من سكان غزة كانوا يعتمدون على المساعدات الخارجية قبل هذه الحرب، وحالياً غالبية سكان غزة يعتمدون على المساعدات الخارجية.
لا نريد الخوض في أرقام هذه المؤشرات، وإنما نؤكد على دلالاتها الاقتصادية والتنموية بأنها ذات بعد تدميري وتراجعي، وكفيلة بحرف كافة الجهود الفلسطينية الرامية للصمود والخروج من هذا المأزق، والمأزق كبير في قطاع غزة مقارنة بالضفة الغربية، ولكن التأثير السلبي ينسحب على المناطق الفلسطينية كافة.
مفهوم الصمود والبقاء الاقتصادي
برز مفهوم اقتصاد الصمود كمصطلح اقتصادي جذاب تبناه عرابو الدول المانحة، وأصبح إطاراً متفقاً عليه لبعض المشاريع الإغاثية التي لم تحرز تغييراً جوهرياً على الحياة الاقتصادية للفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك، استوعب صانعو القرار والمثقفون الفلسطينيون هذا المصطلح، وأصبح يتداول بكثرة في الأدبيات السياسية (كونه مرتبطاً بالمقاومة) والاقتصادية والجوانب العملية والتطبيقية.
كتب رجا الخالدي بتاريخ 2/4/2023 في مجلة السفير العربي حول "الصمود في فلسطين .. من التصدي للاحتلال إلى استدامته"، وبيّن أنه لا توجد جدوى للصمود ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. ما يلفت الانتباه في ما كتبه، هو كيف أن المانحين استخدموا الصمود كإطار أو مصطلح جديد يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي المرتبط بالصمود، ويعطي رونقاً وزخماً للعملية التنموية في فلسطين، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبني مصطلحات رنانة تتوافق مع مشاعر الشعوب المضطهدة، وبذلك أُفرغ مفهوم الصمود ودلالاته التطبيقية، وتم حرف مساره من قبل المانحين. الخطورة، هنا، أن جزءاً من المجتمع الفلسطيني تماهى مع أجندة المانحين بدليل تبني العديد من المشاريع التنموية (الوهمية) ضمن إطار الصمود.
التساؤل هنا: ماذا كشفت حرب الإبادة الجماعية فيما يخص المفاهيم الاقتصادية المتداولة عملياً ونظرياً؟ الإجابة المباشرة هي أن هذه الحرب تجب ما قبلها، بمعنى أنها طمست كافة المفاهيم والمصطلحات الاقتصادية التي يمكن إسقاطها على الاقتصاد الفلسطيني، بحيث إنه يمكن القول إنها شطبت من السجل الاقتصادي الفلسطيني كما شطبت آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة من السجل المدني. فلم يعد هناك نمو أو تنمية، أو اقتصاد صمود، وأدخلتنا في مرحلة اقتصاد جديد يمكن تسميته اقتصاد البقاء. لتوضيح ذلك، ننطلق من ثلاثة تعاريف أساسية هي النمو والتنمية، واقتصاد الصمود، واقتصاد البقاء، إذ يتناول النمو الاقتصادي زيادة في مستوى الإنتاج المادي للفرد والمجتمع، بينما التنمية الاقتصادية مرتبطة بزيادة في الإنتاج من خلال التغير الهيكلي والوظيفي، إلى جانب تحسين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للبلد. فالنمو يتوقف في مرحلة من الزمن، بينما التنمية تبقى مستمرة، وبذلك يكون النمو جزءاً من العملية التنموية، والعكس غير صحيح.
بالنظر إلى تعريف الصمود واقتصاد الصمود، يتبين أن الصمود يتجلى في مواجهة أفعال وسياسات هادفة إلى إلغاء الطرف الآخر، وهذا تنجم عنه مقاومة وتصدٍّ من قبل الطرف الذي يتعرض لسياسات وأفعال الإلغاء والاضطهاد، وتظهر مؤشرات الصمود بالتمسك بالأرض، أو في الحفاظ على المنطقة الجغرافية للساكنين. وهذا الصمود مرتبط بالدرجة التي يتحملها المتصدي أو الصامد في مقاومة الأفعال المدمرة المستمرة، وقدرته على البقاء صامداً. ومن هنا، يمكن الحديث عن اقتصاد الصمود الذي يتيح للسكان تأمين احتياجاتهم الأساسية، وتمويل متطلبات الإغاثة. هذه الحالة ينتج عنها ما يمكن تسميته اقتصاد البقاء، عندما يتعرض اقتصاد الصمود إلى صدمات كبيرة مثل الإبادة الحاصلة في قطاع غزة، إذ أن اقتصاد الصمود حالة مستمرة، وقد تكون طويلة الأمد، بينما اقتصاد البقاء حالة مؤقتة تنتهي بانتهاء الحدث المفاجئ والمدمر، وفي حال انتهاء الحدث، يتم العودة إلى اقتصاد الصمود. بمعنى في حالة اقتصاد البقاء يجد السكان أنفسهم في حالة من الكساد الاقتصادي العميق، وحالة عالية من مستوى البطالة، وانعدام للدخل، وتدهور حاد في مستوى المعيشة، وشبه غياب للخدمات الأساسية، وبخاصة الصحية منها، الأمر الذي يصعّب الحياه ويجعلها أكثر تعقيداً ويصبح الهدف الأساسي للسكان هو البقاء على قيد الحياه، وهنا يمكن تعريف اقتصاد البقاء بأنه الحالة التي يستطيع السكان فيها تلبية احتياجاتهم المعيشية بالحد الأدنى للبقاء على قيد الحياه، مع انتظار وترقب السكان مرحلة تحسين الأوضاع الاقتصادية، وهنا قد تكون هذه المرحلة هي الوصول إلى مرحلة اقتصاد الصمود.
مرحلة اقتصاد الصمود يمكن استمرارها بواسطة اتخاذ مجموعة من السياسات الاقتصادية المتعلقة بدعم القطاعين الزراعي والصناعي، وتعزيز حصة المنتج الوطني، وسياسات لخلق فرص عمل إضافية، وسياسات ضريبية محابية للفقراء، وغير ذلك من السياسات التي تخدم الصمود، وقد تفيد هذه السياسات عملية النمو الاقتصادي في مرحلة ما. بينما اقتصاد البقاء يحد من القيام بسياسات اقتصادية بشكل كبير جداً، بسبب الأفعال المعادية المدمرة، ونقصد هنا حرب الإبادة الجماعية. حتى إنه لا يمكن تسمية هذه المرحلة بأنها مرحلة اقتصاد حرب، لأنه في اقتصاد الحرب تبقى السياسات الاقتصادية فعالة، ويمكن تغييرها وتطويرها، ولكن في حالة اقتصاد البقاء، تصبح جميع السياسات الاقتصادية عاجزة.
حرب إبادة أنتجت بؤساً اقتصادياً وفقداناً للأمل
إذن، أنتجت حرب الإبادة هذا النوع من الاقتصاد العاجز (اقتصاد البقاء)، وذلك لأن الاقتصاد في قطاع غزة حالياً يواجه عرضاً أو إنتاجاً محدوداً جداً، وطلباً يائساً لانعدام القوة الشرائية وغياب مصادر الدخل، وحصاراً وإغلاقاً أمام الواردات والصادرات، مع ارتفاع حاد بالأسعار تصاحبه سوق سوداء وتجار حرب وعصابات نهب للمساعدات في الوقت الذي تشح فيه المساعدات. فقد كشفت هذه الحرب عن زيف المساعدات والمشاريع السابقة التي كانت تقدم ضمن مشاريع النمو المستدام والتنمية المستدامة، وتبين أنها تنمية مؤقتة جداً، ونمو شبه معدوم، وأن اقتصاد الصمود كان له أثر معقول ما قبل هذه الحرب، ولكن سرعان ما تلاشى وأصبح غير ملحوظ، بدليل تراجع وانهيار كافة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية لقطاع غزة.
وضعت حرب الإبادة هذه غالبية سكان فلسطين على حافة الهاوية الاقتصادية، ولم تكن الضفة الغربية بمنأى عن هذه الهاوية، إلا أن الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة تجاوزت كل التصورات الكارثية، وزجت السكان في حالة البحث عن البقاء، والبحث عن كيفية مواصلة الحياة، والحصول على الحد الأدنى من متطلباتها للبقاء على قيد الحياة.
لذلك كله، أصبح الاقتصاد الفلسطيني، وبخاصة في قطاع غزة، يواجه حالة البقاء الاقتصادي، ولم يعد بالإمكان التعامل مع الوضع الاقتصادي الحالي كما هو الحال قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بسبب التغير الجوهري الذي مزّق وأسقط الأدوات والمفاهيم الأساسية التي على أساسها يتم بناء السياسات والبرامج الاقتصادية. بمعنى أن الحديث حالياً يتركز في عدم الترحيل والتهجير القسري، وعدم التجويع، وتوفير الإيواء ولو بحده الأدنى، وليس الحديث عن النمو الاقتصادي أو الصمود الاقتصادي أو البرامج التنموية التي تعزز الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، فجميعها تسقط وتفقد معناها في ظل الإبادة الجماعية.
الخلاصة هنا، أنه على المجتمعين الدولي والفلسطيني أن يدركا أن مفاهيم التنمية والنمو والسياسات الاقتصادية والصمود الاقتصادي جميعها أُسقطت بآلة حرب الإبادة، وأصبحت بلا معنى، ولن تسترجع مضمونها ما لم يتم وقف آلات وآليات التمويت للوصول إلى نقطة الصفر، ومن ثم بدء الانطلاق من حالة البقاء الاقتصادي الحالية إلى الصمود الاقتصادي، وبعدها مرحلة التنمية والنمو الاقتصادي، وهذا ما يجب أن يركّز عليه المجتمع الدولي للتخلص من حالة البؤس وفقدان الأمل.