قراءة - نبهان خريشة
"رحلة بالداسار" رواية مليئة بالمفاجآت والانكسارات والدهشة والأساطير والترحال الدائم، ولكن بحثاً عن ماذا؟ إنه البحث عن حلٍّ لذلك القلق الوجودي المستمر في رحلة الإنسان من الحياة المعاشة إلى تلك الحياة الأبدية التي تنتظره، والتي ستكون حساباً، عقاباً أو ثواباً، والتي يتناولها الإنسان أبداً بوَجَلٍ عارم، كونه دائماً متهماً ومُداناً سلفاً، إلى أن تتلقَّفه يدُ العناية الإلهية برحمة أو مغفرة منها، تلك الصيرورة المنتظرة التي لم تقدِّم لها الفلسفات (بما فيها الأديان) سوى الفرضيات التي يمكن دوماً ثقبها والارتياب فيها، مادام لم يعد أحدٌ أبداً من عباب الموت ليخبرنا بما لقيه حقاً، وبما ينتظرنا جميعاً.
يوزِّع أمين معلوف عمله بين أسطورة الكتاب، ورحلة عظيمة الشأن، وبين المرأة التي تبحث عن وثيقة موت زوجها "سياف"، ذلك الأفَّاق الهارب الذي ما يزال رغم موته، يربطها إليه كما يرتبط المَتاع بمالكه... إنها الرحلة العاتية التي يتوزع فيها "بالداسار" بين بحثٍ عن الكتاب، الذي يضع حداً لقلق النهاية التي تنتظر العالم، وبين البحث عن ورقة واحدة، وثيقة تمنح الأرملة الخلاص من ذلك الرباط الذي يحتجز حريتها، ويُبقيها ملكاً لذلك الغائب.
تكتنز الرواية، كما هو شأن معظم أعمال المعلوف، بالحكمة التي تصدر عن ذلك الشخص الذي عَرَكَتْه الأيام، فجمع إلى تشكُّكه وارتيابه المستمر، ضرباً من الإيمان الهادئ الذي يطل برأسه خجلاً كأنه سؤال أكثر منه تقريراً. تلك الحكمة نجدها هنا وهناك، ترصِّع بعض الصفحات، فتراه يسوق على لسان أبطاله مقولات هي أشبه بحبات الياقوت التي تزيِّن مقابض سيوفهم.
"لا يوجد شيء لا نقدر سماعه في قرارة أنفسنا وسط سكون الليل". هكذا يؤكد بالداسار في لحظة صفاء مع روحه الهائمة القلقة التي يتنازعُها السعيُ وراء الكتاب، والسعي إلى إنجاز مطلب "مارتا"، تلك المحبوبة الأسيرة التي تنشد خلاصها. ويقدم لنا معلوف رحلة بالداسار من خلال كراريس أربعة، يخطُّها بالداسار بعناد وصبر عظيم، كل ليلة تقريباً، على شكلٍ سردي يشبه المذكرات اليومية، كأنها تقرير يومي لمراسل صحفي ينقل لنا يومياً ما استجدَّ من أحداث. فهو يُعَنْوِن فصوله: "في جنوى، السبت 23 تشرين الأول 1666" أو "في الأسر، 29 حزيران"، وكأن الخبرة الصحفية لمعلوف تطل برأسها بين سطور رواياته؛ هذا علاوة عن العمل التوثيقي الي المستوى الذي يتحلَّى بها عمله.
أنه يسوق لنا أحداثاً في العام 1665 وما يليه.. أحداث دقيقة وقعت فعلاً وأسماء تحدثنا بها كتب التاريخ بحيث تخال نفسك تطالع مذكرات حقيقية لكاتب محترف يستطيع، أن يوقِّع يومياته بأناة عالية، دون أن يوقعك بالانقطاع الذي يضيِّع الأحداث ويُخرِجُها عن سياقها التاريخي.
يمضي بالداسار في تتبُّع أثر الكتاب الذي اشتراه منه الفارس "مارمونتيل"، موفَد البلاط الفرنسي، عنوة ونتيجة سوء تقديره؛ إذ ظن أن المبلغ الذي طلبه كفيل بصرف المشتري الذي خيَّب أمله فنقَده ثمنه دون تردد. وبذا فرَّ الكتاب من بين يديه دون أن تتاح له فرصة تصفُّحه. وسوف يُمضي بالداسار رحلته من جبيل في لبنان، إلى القسطنطينية، إلى إزمير، إلى أرض الأجداد في جنوى؛ ومنها إلى إنكلترا، مروراً بعشرات النكبات والانكسارات، من احتيال رجال السلطان العثماني وابتزاز عملائهم، إلى المطاردة والاعتقال والنفي ملفوفاً بقطعة من الكتان، كما يفعل بالأموات على ظهر سفينة مبحرة إلى جنوى؛ ومنها إلى لندن، حيث يلتقي كتابه الضائع الذي تتلقَّفه العديد من الأيدي المهتمة.
وعندما تبدأ الأحداث بالتتابع السريع، وتمر الليلة المشؤومة التي تشكل مفصل النهاية بسنة "الوحش"، والتي تحسم بمرورها احتمالَ بقاء العالم أو زواله، تلك الليلة التي تتعرض فيها لندن إلى حريق عظيم يوشك أن يأتي على معظم المدينة، وكأن ما كان بالحسبان قد وقع، وأن سنة الوحش قد اختارت لتحقيق وعيدها الساعات الأخيرة من تلك الليلة. إنها ليلة 12 أيلول من العام 1666.
مع كل هذه الأحداث، ما يزال بالداسار مصراً على تسطير كرَّاسه الرابع، مع علمه بضياع كراريسه الثلاثة السابقة... عند هذا الحد، وبعد أن يصبح الكتاب ملكاً له يقرِّر "بالداسار" عدم جدوى قراءته، ويرمي به على أحد الرفوف، وكأنه يعلن: أنه لا حقيقة كامنة نحن مضطرون للجري خلفها... إنها هنا حيث نعيش، وحيث نمضي، وهي كالسعادة، تقبع في أعماقنا وفي ثنايا حياتنا، وأن السعي للبحث عنها ما هو إلا ضرب من ضروب السراب الذي لا نجني منه غير الشقاء.