يمكن القول دونما تحفظ إن مسار حرب الإبادة ضد شعبنا منذ 8 أكتوبر 2023 قد عززت لدى الكثيرين القناعة بلا جدوى مقولات النظام الدولي والشرعية الدولية، إلا من زاوية واحدة، ليست حاسمة في معركة التحرير بالنهاية: الاستفادة من هذا النظام وتلك الشرعية أحياناً، للتشهير والتحريض الإعلامي والسياسي ضد الكيان الصهيوني. تلك القناعة تشكلت ليس فقط من تجربة شعبنا المريرة مع المؤسسات الدولية، بل ومن تجارب الشعوب. لم يتحرر شعب من الاستعمار مطلقاً عبر التاريخ بفعل تلك المؤسسات وشرعتها، بل بكفاح الشعوب الدموي، كفاح كان العمل المسلح العنيف عنوانه الأساس.
أما في الساحة الفلسطينية عموماً، في الفكر السياسي كما في الخطاب، فقد أصابت هذا الخطاب وذاك الفكر التخمة لكثرة استخدام القانون والشرعة والنظام الدولي، حتى غابت الفروق بين التنظيم السياسي، ونحن في مرحلة التحرر الوطني، ومنظمات (الأنجي أوز) المغرمة بذلك الخطاب القانوني الليبرالي حتى النخاع!.
لا أعتقد أننا بحاجة لجردية القرارات الدولية الصادرة عن محكمة العدل الدولية ومؤسسات ومنظمات وهيئات دولية وبمختلف التخصصات والحقول، ليس في تاريخ القضية الوطنية، بل فقط منذ عام، تعامل معها المستعمِر الصهيوني وحلفاؤه الإمبرياليين الغربيين دون أدنى جدية، بل وباستفزازية وقحة، وصلت حد تمزيق ميثاق الأمم المتحدة، وعلى مرأى من أعضائها من قبل المندوب الإسرائيلي.
واليوم إذ تصدر محكمة الجنايات قرارها باعتقال نتنياهو وغالانت، فلا شك أنه قرار وجه ضربة سياسية وقانونية ومعنوية للصورة الكاذبة (للضحية) التي طبعت الخطاب الصهيوني منذ أكثر من 75 عاما، فبدا شعبنا كأنه المعتدي على ضحية يهودية لا تملك إلا البكاء واستعطاف العالم لنصرتها، ولم يتأخر المجتمع الدولي بتلبية النداء، فبكى معها.
لا يقللّن أحد من اتهام قيادات الكيان الصهيوني بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وقبل ذلك بالإبادة الجماعية وجريمة التجويع. الاتهام هذا وضعنا أمام صورة على النقيض تماماً، على مستوى الرأي العام والوعي العام الشعبي، إن جاز التعبير، للصورة النقيض، صورة الضحية التي طبعت المخيال السياسي اليومي لأوساط واسعة من الشعوب في أوروبا وأمريكا، والرأي العام العالمي إجمالاً. هنا يمكن للنشطاء السياسيين والمجتمعيين ولكل أنصار الحرية ومناهضة الاستعمار والعولمة والاضطهاد في العالم أن يقولوا كلمتهم في تعزيز موقفهم، بعد قرار المحكمة، بالانتصار لرواية شعبنا أمام الرواية الصهيونية الكاذبة، والتي بدأت تفقد رونقها، خاصة باستنادها لجملة (العداء للسامية)، والتي غدت ممجوجة تماماً، وكذلك المستندة لثيمات دينية خرافية حول (أرض الميعاد وشعب الله المختار)، (فأرض الميعاد) أرض الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، و(شعب الله المختار) في فلسطين هم في الواقع مجرمو حرب.
النفاق الأوروبي والوقاحة الأمريكية
والدعوة لعدم التقليل من أهمية القرارات تقابلها الدعوة لعدم الطيش على شبر ماء، بخصوص تأثير تلك القرارات على السلوك الصهيوني نتيجة المواقف الأوروبية المعلنة باحترام القرارات. من الجيد أن معظم الدول الأوروبية أعلنت احترامها لقرار المحكمة، وأكدت أنها ستنفذه في حال قدوم نتنياهو وغالانت لأراضيهم، ولكن الصحيح أيضاً أنه يشاع أن فرنسا وافقت على صفقة تتنازل فيها عن موقفها هذا مقابل إشراكها في تسوية ومفاعيل وقف إطلاق النار في لبنان. باختصار بدأت حملة الصفقات، والأكيد الضغوط، لثني الدول الأوروبية عن موقفها. جرت العادة أن تتنازل الدول الأوروبية بسرعة أمام الضغط إلا إذا قال شارعها كلمته بقوة.
قلنا من الجيد ولكن لا يجوز الطيش على شبر ماء، فالنفاق الأوروبي الرسمي لا حدود له. بعد 14 شهرا من إبادة موصوفة من هيئات ومؤسسات ومنظمات دولية، ما معنى الاكتفاء بهذا الموقف غير أنه نفاق؟ إذ ما معنى استمرار تزويد جيش الإبادة بالأسلحة، وعدم طلب شطب عضوية الكيان من الأمم المتحدة، بعد أن اتُهم صراحة بالإبادة، ويتمرد على قراراتها ويمزّق ميثاقها، واستمرار العلاقات التجارية والعسكرية، وعدم قطع العلاقات السياسية، وعدم مقاطعته على كل الأصعد؟ كل ذلك، وكل ذلك فقط، يمكن في حال اتخاذه أن يؤكد مصداقية الموقف الأوروبي من دولة الإبادة، أما الاكتفاء بإعلان احترام قرارات المحكمة فلا قيمة له بالنهاية عملياً، إذ كيف يحترمون قراراً باعتقال راسيّ الكيان، بتهمة جرائم الحرب والتجويع، ويحافظون على علاقات طبيعية معه؟ هذا لا يمكن وصفه سوى بالنفاق لا أكثر ولا أقل، وفي العمل السياسي لا يعوّل على هكذا موقف، بل يجب فضحه دونما تردد.
أما الوقاحة الأمريكية فلا حدود لها. ليس في التاريخ أكثر وقاحة من أن تبيد ملايين السكان الأصليين ثم تنصب تمثالاً للحرية وقيمها! ليس أكثر من وقاحة أن تنظّم الإبادات والمجازر والحروب والانقلابات، في فيتنام وكوريا والصين وكل بقعة على وجه البسيطة، وترفع مع كل ذلك شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
في الموقف الأخير من قرارات الجنائية الدولية استمرارا لتلك الوقاحة المقززة، وتعبيرا عن فقدان الحد الأدنى من الأخلاق الإنسانية. يوم أصدرت ذات المحكمة قرارات شبيهة ضد البشير في السودان وبوتين في روسيا سارعت الإدارة الأمريكية لتعلن دعمها للقرارات، وأن إصدارها من صلاحيتها، أما اليوم فأعلنت أن لا صلاحية للمحكمة، وأنها لا تعترف بها، بل وهدّدت علانية قضاتها وتوعدتهم بأسلوب لا يختلف عن أساليب المافيا. لا غرابة بذلك، فالإمبريالية تكذب كما تتنفس، ووقحة حد التقزز، وإدارتها في البيت الأبيض، لمن لم يقعوا في حبائل موضاتها الفكرية، حسب تعبير المفكر سمير أمين، حول الديمقراطية والحرية والحوكمة وحقوق الإنسان، هي مافيا حقيقية لا أكثر.
ربما يكون من فائدة قرارات المحكمة الجنائية، غير ذاك المكسب المعنوي والسياسي والقانوني بفضح حقيقة القيادات الصهيونية كمجرمي حرب، بل أيضا، وبعد تجربة مريرة للنظام والقانون الدوليين على مدار شهور الإبادة، في طرح مسألة صلاحية النظام الدولي الحالي على بساط البحث، وهو نظام تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وشكّل في كثير من الأحيان غطاء للإبادة والحروب ضد الشعوب وللهيمنة عليها وعلى مقدراتها، وذلك يحتاج لوقفة أخرى.