الغائبون في الأوقات الصعبة يجب أن يظلوا غائبين إلى الأبد
جبران خليل جبران
يؤخذ في العرف السياسي بمبدأ أن تغييب الخصم أو العدو هو الانتصار الأهم الذي يمكن تحقيقه في المعارك والحروب والأزمات، بغض النظر عن شكل هذا التغييب، سواء أكان بالقتل والتدمير أو الإبادة كما يحدث في غزة منذ أكثر من عام، أو من خلال إقصاء من التاريخ ومن الحضور فيه مثلما حصل مع عملية كتابة تاريخ فلسطين من وجهة نظر المستعمر الذي افترض غياب الفلسطيني وخلو أرضه منه. غير أن التغييب يختلف عن الغياب، فبينما الأول يأتي بالقسر والقوة والعنف، فإن الغياب في المجمل قد يكون إراديا، أو برغبة الغائب في أن يغييب. أما سؤال من الغائب في خضم هذا العدوان الكبير على غزة فهو السؤال الكبير. وتكمن الإشكالية في تحديد الغائبين حد أنه لم يبق من الحاضرين في ميدان الفعل سوى أولئك الذين يتعرضون للإبادة والحصار والتجويع حتى الموت.
أما الغائب الأكبر في خضم عدوان الإبادة فهي القيادة الوطنية والشعبية بمؤسساتها وفصائلها وشخوصها، والتي يبدو غيابها وكأنه غياب تكتيكي، أو بالأحرى ميكافيللي، ينتظر إتمام المهمة على الوجه الأكمل كي يظهر الغائبون على الساحة، وكي يُقرّعوا خصمهم بالقول: "ألم نقل لكم؟". إنها سياسة جلد الضحية لنفسها، أو خداع الضحية لنفسها، أن تظن الضحية أنه يمكنها أن تنجو من الوحش إذا استسلمت له ولم تواجهه.
واليوم، وبعد دخول وقف إطلاق النار في لبنان حيز التنفيذ، واستمرار الإبادة في غزة، تبدو مشهدية تقريع الذات ولومها صاحبة الصوت الأعلى بادعاء تسبب الضحية بنفسها لكل هذا القتل والدمار، هكذا على الأقل قال أحد "المفكرين" الكبار في واحدة من جلسات مؤتمر يناقش سياسة التوحش التي يتعرض لها الفلسطينيون. بمعنى، أننا عندما لا نكون أقوياء كفاية علينا أن لا نواجه وأن لا نعترض وجه العدو بل أن نفكر بكيف نسالمه كي نسلم. غير أن المشكلة تكمن في أننا لم نسالم ولن نستطيع أن نسالم أكثر مما سالمنا منذ توقيع اتفاقات أوسلو قبل نحو ثلاثين عاما، أما ما جرته هذه الاتفاقات من خراب ومن سياسة السكون المتبعة في العقدين الأخيرين، فلا يعني سوى أن ممارستنا للسياسة إنما هي سياسة الانتظار في خانة الموت.
هكذا يُقرأ المشهد ببساطة، فتصريحات وزير مالية الاحتلال، بتسليئيل سموتريتش، الأخيرة قال فيها صراحة أن ما حدث في غزة وما سيليه من دفع الغزيين إلى الهجرة لاحقا، هو نموذج سيحتذى به في الضفة، وهو تصريح يعزز تصريحه السابق ببسط السيادة على الضفة الغربية في عام 2025. وهذه التصريحات لا يمكن فصلها عن سياق التخطيط الاستراتيجي الذي يعكف الإسرائيلي على تطبيقه فيما يعرف باستراتيجية الحسم التي أطلقها سموتريتش نفسه عام 2017.
وعلى هذا، يمكن أن نرى أن هنالك مخططا مستمرا يسيطر عليه إصرار حثيث في استكمال ما لم تنهه العصابات الصهيونية عام 1948، فبالنسبة لسموتريتش وزمرته فإن الترانسفير هو الحل الوحيد للحفاظ على دولة يهودية قوية، ومن لا يرى ذلك حقيقة سيُنظر إليه من عين المهداف على حد تعبير سموتريتش.
لذا سيكون الفلسطيني المسالم أو المقاوم على مقام سواء عند النظر إليهم بعين سموتريتش، ولن يستطيع الغائبون الغياب وإن حاولوا ذلك، أفليس جديرا بهم أن يفعلوا شيئا يخرجوا من ساحة الغياب كي ينجوا بأنفسهم على أقل تقدير؟!