الناصرة- محمد وتد
يرتهن الوضع الاقتصادي الاجتماعي لفلسطينيي 48 بالحالة السياسية الخاصة التي يعيشونها وبالسياسات الاقتصادية المتبعة من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إذ تتميز سياسات الإفقار هذه في التأثير على التوزيع غير المتكافئ للموارد الاقتصادية بين المجتمعين العربي واليهودي، وبالتالي تسهم في التخلف النسبي الواضح لمستوى رأس المال المادي والبشري للمجتمع الفلسطيني بالداخل، ناهيك عن الحواجز التي تخلفها هذه السياسات، التي تتمثل أساسا بالتمييز في سوق العمل والبنى التحتية وانعدام الاستثمار بالمناطق الصناعية لتقف أمام النمو الاقتصادي الطبيعي للمجتمع الفلسطيني بالداخل وتكرس التبعية للاقتصاد الإسرائيلي.
باتت سياسات الإفقار في إسرائيل هدفا تسعى الحكومات المتعاقبة على تنفيذه في أرض الواقع وتقوم بتبريره بكل الوسائل والطرق، وقد نجحت في ذلك إلى حد ما، فأضعفت السوق الفلسطيني المحلي وزادت استهلاكياته وتبعيته للسوق الإسرائيلي، إلى جانب اعتماد سياسة تهميش الاقتصاد الفلسطيني والإجحاف في منح التراخيص والدعم الحكومي مقارنة باليهود، وسياسة الإقصاء الاجتماعي لفلسطينيي 48 وإبعادهم عن تيارات الحداثة التي تساهم في تنمية المجتمع.
ويصل معدل الفقر بإسرائيل نحو %23 من الأسر التي تعيش في الفقر، حيث دلت المعطيات على أن العائلات من فلسطينيي 48 هي الأكثر فقراً، إذ أن حوالي %55 منها تعيش تحت خط الفقر، وتشكل قرابة %30 من مجمل العائلات الفقيرة بالبلاد، بينما تصل معدلات الفقر في أوساط كبار السن والأطفال العرب نحو %60.
هذا إلى جانب اتساع رقعة البطالة لتتجاوز نحو %20، ويشكل العرب فقط نحو %40 من القوى العاملة مقارنة بـ %66 بالمجتمع الإسرائيلي، وقد ساهمت سياسات التهميش والإقصاء إلى تعميق الفجوة الاجتماعية الاقتصادية بين العرب واليهود، وتشير البيانات الإسرائيلية إلى أن المجتمع العربي يحصل على قرابة %7 فقط من مجمل الدخل القومي الإجمالي في الدولة، بينما اليهود يصل نصيبهم إلى %93.
تقرير مركز أدفا
لقد انعكس الوضع الاقتصادي الاجتماعي سلبا على المستقبل العلمي والأكاديمي لفلسطينيي 48، حيث كشف تقرير أدفا عن الفروق الشاسعة بين الوسطين العربي واليهودي في مستوى التحصيل العلمي، ويستدل من معطيات التقرير، الذي يعتمد على إحصائيات ومعلومات رسمية وحكومية، وجود فجوات كبيرة بين اليهود والعرب في إسرائيل، وبين اليهود الشرقيين والغربيين، وكذلك بين الرجال والنساء. وبين أن متوسط الدخل الشهري لدى الأجيرين اليهود من أصول غربية أكثر بـ %42 من متوسط الدخل العام للأجيرين المدنيّين. بالمقابل، فإن متوسط الدخل لدى الأجيرين اليهود الشرقيين أعلى بـ %9 من متوسط الدخل العام. أمّا وضع الأجيرين من فلسطينيي 48 فهو الأسوأ ليبقى متوسط دخل سكان المدن العربيّة أقل بـ %34 من متوسط الدخل العام.
وانعكس الوضع الاقتصادي الاجتماعي سلبا على المستقبل العلمي والأكاديمي لفلسطينيي 48، حيث كشف تقرير أدفا عن الفروق الشاسعة بين الوسطين العربي واليهودي في مستوى التحصيل العلمي كذلك، ففي العام التعليمي 2011 / 2012، درس .8 ممن يبلغون 20 - 29 عاما بإسرائيل في مؤسسات أكاديمية مختلفة، بلغت النسبة نفسها لدى من يبلغون 20 - 29 في المناطق العربية %7.5 فقط، أما بمدن التطوير، فبلغت النسبة .4، مقابل %21.8 في البلدات ذات الوضع الاقتصادي الاجتماعي الجيد.
ولمواجهة الفقر وسياسات الإفقار، أطلق مركز الدراسات المعاصرة بالتعاون مع جمعية إعمار للتنمية والتطوير الاقتصادي بالإضافة إلى لجنة الزكاة القطرية المشروع الريادي لمكافحة الفقر من خلال المبادرة لصندوق خاص يقوم بتمويل ودعم مشاريع تجارية صغيرة للعائلات الفقيرة تؤهلها العمل وكسب لقمة العيش ومرافقتها في الإرشاد الاستهلاكي وتطوير المصالح التجارية من خلال طرح البدائل التجارية والصناعية لمواجهة سياسات الإفقار الإسرائيلية تجاه الداخل الفلسطيني.
لطفي “سياسات الإفقار” كإستراتيجية إسرائيلية في إفقار المجتمع الفلسطيني وتهميش اقتصاده
واستعرض بحث علمي مشترك الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل، لاسيما في ظل الظروف الصعبة التي يعشيها الفلسطينيون في البلاد، ويعتبر البحث والمؤتمرات التي تلته سابقة على مستوى الداخل الفلسطيني كونه يبحث بالعمق «سياسات الإفقار» كإستراتيجية إسرائيلية في إفقار المجتمع الفلسطيني، بالإضافة إلى طرح رؤى وتصورات عملية لمواجهة هذه السياسات والحفاظ على السلم الاقتصادي والاجتماعي والهوياتي للمجتمع الفلسطيني بإسرائيل.
وفي حديث مع الدكتور صالح لطفي مدير مركز الدراسات، حول الأبحاث ومشروع تمويل المشاريع الاقتصادية للعائلات الفقيرة قال إن: «الأبحاث محاولة جادة لقراءة السياسات الاقتصادية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الداخل وتقديم حلول ذاتية للنهوض ولمواجهة الأزمات الخانقة التي يمر بها مجتمعنا، وذلك من خلال أطروحات عدد من الباحثين والمتخصصين في شؤون السياسات الاقتصادية الإسرائيلية، بغية تعزيز الانتماء والشعور بالمسؤولية الجماعية ولإبداء الآراء ولطرح تصورات وحلول عملية تسعى لرقي ذاتنا ومجتمعنا وللحفاظ على هويتنا الوطنية والجماعية».
وأوضح لطفي أن الفقر بالداخل الفلسطيني، ووفقا للأرقام والإحصائيات، أصبح لازمة ترافق المجتمع العربي برسم أنه نتاج سياسات انتهجتها الحكومات الإسرائيلية منذ النكبة إلى هذه اللحظات، مؤكدا بأنه فخ وقع المجتمع الفلسطيني بالداخل في حباله وارتهن للسياسات الإسرائيلية، وهي سياسة هدفت ابتداء لجعل الناس يعيشون في فلك اللقمة ولا ينفكون عنها دفعا نحو مصير وواقع أفضل.
ويعزو لطفي تدني الوضع الاقتصادي الاجتماعي وانتشار المظاهر الاجتماعية السلبية ببلدات الداخل الفلسطيني، إلى الفقر وتداعياته الاجتماعية والأخلاقية والقيمية والسياسية وهو الحاضن الأمثل للجريمة والعنف والعمالة وتفكك المجتمع، والسؤال المطروح هل هناك اقتصاد خاص في الداخل الفلسطيني يمكننا من خلاله الخروج من عنق الزجاجة؟.
ويجيب لطفي بالقول: «قد تكون أموال الزكاة وعمليات التبرع وتخصيصها عبر صندوق يعني بالعائلات الفقيرة ودعمها بمشاريع تجارية واقتصادية تؤهلها الاعتماد على الذات وخلق فرص العمل وتعزيز التكافل الاجتماعي وتوسيع رقعة التشبيك هي السبيل لخروج من عنق الزجاجة، خاصة في ظل تصاعد سياسات الإقصاء والتهميش والإبعاد الموجهة لفلسطينيي 48 وخاصة الشرائح الشابة، فمعدلات الفقر داخل المجتمع الفلسطيني في ارتفاع ملحوظ مقارنة مع المجتمع اليهودي، وطالت سياسات الإفقار الأطفال والأولاد العرب بشكل بارز، والفوارق في تخصيص الموارد والميزانيات تزداد يوماً بعد يوم مما يؤدي إلى توسيع الفجوات الاجتماعية والطبقية».
عواودة: «السياسات الاقتصادية الإسرائيلية تجاه المجتمع الفلسطيني بالداخل عمدت إلى تكريس حالة التبعية وتعلق الفلسطيني كفرد وكمجتمع بالاقتصاد الإسرائيلي»
ويتفق مدير جمعية إعمار للتنمية والتطوير الاقتصادي يوسف عواودة مع الدكتور لطفي، ويشدد على ضرورة طرح الحلول الذاتية لمشكلة الفقر وعدم انتظار تبدل وتغير السياسات الإسرائيلية، وذلك من خلال ترشيد الاستهلاك وإحداث حراك تنظيري وتطبيقي لدعم وتشجيع المبادرات وروح المبادرة والإقدام بين أبناء المجتمع والحث على العمل وعدم خلق البطالة والحث على الزكاة والتبرع وتنظيمها جباية وتوزيعا.
ويرى عواودة في التبرع والزكاة آلية اقتصادية –اجتماعية تعني دعم وزيادة القوة الشرائية وزيادة فرص العمل وفتح المنشآت التجارية عند الفقراء وتقديم حلول لمشكلة تمويل المشاريع كالحث على الشراكات بين المبادرين أو بين أصحاب الأفكار والأموال أو تأسيس صناديق اقتراض وتوعية وتوجيه القوة الشرائية لاختيار وتفضيل منتجات وخدمات هذه المبادرات ما يسهم في تنمية الاقتصاد العربي وتقليل نسبة الفقر.
ولفت إلى أن السياسات الاقتصادية الإسرائيلية تجاه المجتمع الفلسطيني بالداخل عمدت إلى تكريس حالة التبعية وتعلق الفلسطيني كفرد وكمجتمع بالاقتصاد الإسرائيلي لقبول ومعايشة الواقع السياسي، وهكذا تمت عملية صناعة الفقر وتوظيفه في فرض الواقع، فقد تم تحويل المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع استهلاكي وإيهامه بتحسن وضعه الاقتصادي، فتطور الجانب الاستهلاكي دون الجانب الإنتاجي، هو تطور اقتصادي مشوه وغير حقيقي، يصب في مصلحة المنتج والمصنع الإسرائيلي، فليس من المستهجن أن يشير تقرير مراقب الدولة في إسرائيل من العام 2013 أن %2.4 من المناطق الصناعية بإسرائيل تتواجد في البلدات العربية.
اغبارية: «ضرورة السعي والتوجه نحو بناء مجتمع عصامي للخروج من دائرة الفقر وتطويق حالة التبعية والارتهان للسياسات الاقتصادية الإسرائيلية»
يعتقد أستاذ العلوم السياسية الدكتور مسعود اغبارية أن هناك ضرورة للسعي والتوجه نحو بناء مجتمع عصامي للخروج من دائرة الفقر وطوق حالة التبعية والارتهان للسياسات الاقتصادية الإسرائيلية، وذلك باعتماد إستراتيجية فعالة ترتكز على زيادة تفعيل لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية بالداخل، وتشكيل وحدة اقتصادية مهنية، والعمل على إقامة جامعة عربية تساعد كإطار علمي، وتوفير الطاقات والموارد المالية، إلى جانب العمل على إجراء إصلاحات بنيوية في السلطات المحلية العربية، والعودة إلى استراتيجيات تمكين الإنسان العربي عن طريق تشجيع ودعم مؤسسات المجتمع المدني الرامية إلى التنمية البشرية والمجتمعية.
ويدعو الدكتور اغبارية إلى اعتماد إستراتيجية لبناء مجتمع عصامي تركز على ثلاثة مراحل، أولها يكون بإدراك طبيعة المرحلة التي يعيشها المجتمع الفلسطيني ورفض كل سياسات التهميش والذل والازدراء التي يعاني منها فلسطينيو 48، ومن ثم الانطلاق نحو العمل من أجل الحياة الحرة الكريمة المثمرة التي تعمل على صنع الإنسان، حيث يرى بأن المجتمع الفلسطيني بالداخل يسير بخطوات حثيثة نحو بناء مجتمع عصامي، وإن كانت الطريق طويلة ومليئة بالأشواك والتحديات، ويجزم بأن نجاح مشروع بناء المجتمع العصامي، سيجبر قادة إسرائيل على التخلي عن سياسة التمييز العنصري تجاه المواطنين العرب.
ويولي الدكتور اغبارية أهمية بالغة بإقامة مشاريع اقتصادية وتجارية مميزة، إذ يشدد على ضرورة فحص إمكانية إقامة بنك عربي ومؤسسات مالية عربية مستقلة من خلال جذب مستثمرين من العالم العربي وشراكة مع مصارف عربية وعالمية، خاصة وان الدراسات تؤكد بان الداخل الفلسطيني بحاجة لمصرف عربي، كون البنوك الإسرائيلية تجني أرباحا طائلة من البلدات والزبائن العرب، ويقترح تأسيس شركة تامين عربية