الحدث- سوار عبد ربه
تواصل سلطات الاحتلال وبلديته في القدس المحتلة تنفيذ مخططاتها التهويدية والمشاريع الاستيطانية في المدينة، مستغلة انشغال العالم والمجتمع الدولي بجرائم الاحتلال في غزة ولبنان. إذ تعمل الجمعيات الاستيطانية على قدم وساق لتنفيذ مخططاتها التوسعية الإحلالية، بغية تصفية قضية القدس، وفرض واقع ديموغرافي جديد، ضمن منهجية وبرامج قديمة متجددة، تهدف إلى تحجيم الوجود الفلسطيني في القدس وتعزيز الاستيطان اليهودي، طمعا في تفريغ القدس من أصحابها. فمنذ أن وضعت حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة أوزارها في السابع من أكتوبر 2023، بعد عبور المقاومين الفلسطينيين تجاه الأراضي المحتلة، تصاعدت بشكل ملحوظ ممارسات الاحتلال في المدينة بطرق وأساليب مختلفة، فإلى جانب عمليات الاعتقال المكثفة، والإبعادات عن المسجد الأقصى والمدينة، وارتفاع تكاليف الضرائب التي تجبيها حكومة الاحتلال سرقة من جيوب الفلسطينيين، وفرض غرامات تعسفية، ومنع رخص البناء وسحب الإقامة لمن لا يظهر ولاءً ل"إسرائيل" أو يعيش خارج القدس سبع سنوات فأكثر، شهدت العاصمة المحتلة عمليات هدم غير مسبوقة لمنازل الفلسطينيين، تركزت في بلدة سلوان وبخاصة في حي البستان.
وقال الباحث والمختص في شؤون القدس فخري أبو دياب من بلدة سلوان، في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث"، "إن حكومة الاحتلال وأذرعها الاستيطانية والتهويدية تسعى لحسم موضوع القدس، من خلال تغيير التركيبة السكانية لصالح المستوطنين، وذلك عبر دفع الناس إلى الرحيل، وتقليل عدد الفلسطينيين في المنطقة، مركزة جهودها على منطقة جنوب المسجد الأقصى، وبلدة سلوان بشكل خاص، نظرا لأنها الأكثر التصاقا وقربا من المسجد الأقصى، وتعتبر من خطوط الدفاع عنه".
ويعد حي البستان، أحد الأحياء الأربعة في بلدة سلوان، نقطة محورية في مشاريع الاحتلال الاستيطانية، وذلك نظراً لأهميته الجغرافية والتاريخية. ويشير الباحث إلى أن الحي يمثل موقعاً استراتيجياً بالنسبة للاحتلال، إذ يقع بين منطقتين يسعى الاحتلال إلى تهويدهما والسيطرة عليهما لإقامة مستوطنات. فمن الناحية الغربية، يحده حي وادي حلوة الذي يسميه الاحتلال "مدينة داوود"، حيث تمكن من السيطرة على العديد من الأراضي والمنشآت هناك. أما من الناحية الشرقية، فيحده حي بطن الهوى الذي يسمى إسرائيليا "حائط اليمن"، وهو أيضاً من الأحياء المستهدفة من قبل الجمعيات الاستيطانية. ولتحقيق التواصل الجغرافي بين المنطقتين الشرقية والغربية، يرى الاحتلال ضرورة إزالة حي البستان.
وبحسب الباحث، يعتبر حي البستان الذي يقع على مساحة 70 دونما، ويضم 80 منزلا تأوي نحو 1500 فلسطيني، من أقدم الأحياء الوقفية في مدينة القدس، حيث أوقف رسمياً في عهد الخليفة عثمان بن عفان، مما يمنحه أهمية تاريخية ودينية كبيرة.
ويوضح الباحث أن سياسات الاحتلال تصل أيضا إلى ما تحت سطح الأرض، ذلك أن تحت أرض تلك المنطقة توجد آثار كثيرة تؤكد على الهوية العربية والإسلامية للقدس، وهو ما يسعى الاحتلال إلى محوه ضمن سياسته الرامية إلى سلخ المدينة عن تاريخها وتراثها.
استغلالا لظروف مواتية
ومنذ الأول من كانون الثاني 2024، حتى تاريخ إعداد التقرير؛ هدم الاحتلال 15 منزلا في حي البستان وسلم بلاغات جديدة لعدد من السكان تخطرهم بهدم منازلهم. ووفقا لمعطيات مؤسسات القدس، هدم الاحتلال منذ بدء الحرب على غزة نحو 400 منشأة في القدس.
وحول هذا قال أبو دياب الذي تعرض منزله للهدم مرتين خلال عام، "إن الاحتلال انتقل من سياسة الهدم الفردي إلى الهدم الجماعي، في خطوة تهدف إلى التطهير العرقي وتصفية الوجود الفلسطيني بشكل واسع". محذرا من أن نجاح الاحتلال في تنفيذ سياسة الهدم الجماعي سيشجع على استكمال هذه الإجراءات في باقي الأحياء والبلدات المقدسية.
ويرى الباحث أن الاحتلال يستفيد من الأوضاع الراهنة في غزة ولبنان، حيث يتركز اهتمام العالم هناك مما وفر له فرصة للتركيز على قضية القدس. في ظل غياب الضغط الدبلوماسي والمواقف الفاعلة من المجتمع الدولي، الذي يبدو منشغلاً بقضايا أكبر مثل جرائم الحرب والمجازر التي يرتكبها الاحتلال، يواصل الأخير تنفيذ سياساته في القدس دون عوائق. وبما أن الاحتلال لا يواجه أي محاسبة حقيقية على ممارساته المخالفة للقانون الدولي، فإنه من المتوقع أن ينهي مشروع تهجير أهالي حي البستان قبل صيف 2025.
تنفيذا لبرنامج قديم
من جانبه، يرى الباحث في قضايا الاستيطان وعضو الائتلاف الأهلي المقدسي خليل تفكجي، أن المسألة في القدس ليست مرتبطة في السابع من أكتوبر إنما هي تنفيذ لبرنامج أعده الاحتلال منذ عام 1973، حيث شكلت آنذاك لجنة تدعى "أرنون جيبلي" بناءً على قرار من رئيسة وزراء الاحتلال السابقة غولدا مائير. والهدف من تشكيل هذه اللجنة كان تحقيق تغيير ديموغرافي لصالح الأغلبية اليهودية على حساب الأقلية العربية".
ويشير التفكجي إلى أن الاحتلال يستغل الظروف الراهنة لتنفيذ هذا البرنامج، الذي يتصاعد ويتراجع حسب الوضع العام، مبينا أنه في الوقت الحالي، يتمثل الجو العام في "إسرائيل" في دعم اليمين المتطرف، إلى جانب التأييد الأمريكي والأوروبي والصمت العربي، مما أتاح لها التحرك دون أي اعتراض جاد.
وأضاف: "في ظل غياب أي ضغوط دولية، وضعت "إسرائيل" جميع قراراتها على الطاولة مستفيدة من الظروف المواتية لها. إضافة إلى ذلك، فإن انشغال العالم بالحرب في غزة ولبنان جعل الأنظار تتوجه بعيداً عما يحدث في القدس. وبالتالي، استفادت من هذه الظروف لتنفيذ سياساتها الاستيطانية والتهجيرية دون معوقات."
عملية طرد وإحلال تحت غطاء ديني
وقال الباحث في قضايا الاستيطان في لقاء خاص مع "صحيفة الحدث" إن عمليات الهدم التي ينفذها الاحتلال ما هي إلا جزء من ذلك البرنامج الشامل الذي وضعت لأجله مجموعة من القوانين تركز على مصادرة الأراضي وفرض قرارات التنظيم والبناء، والإجراءات المشددة على عمليات البناء في القدس، مثل فرض تكاليف باهظة تصل إلى 40 ألف دولار للحصول على رخصة بناء، مما يجعل العملية شبه مستحيلة في العديد من الحالات.
وأشار الباحث إلى أن هذه الإجراءات الإحلالية الرامية إلى تغيير الواقع الديمغرافي، يغلفها الاحتلال بغطاء ديني، حيث قال إن "ما يحدث اليوم في سلوان هو استغلال القضية الدينية لأغراض سياسية. فالهدم الذي يتم في حي البستان حالياً يرتبط بما يُسمى "حديقة الملك"، وهي المنطقة التي يُزعم في القصص التوراتية أنها كانت تمثل مكاناً يمر فيه داوود وسليمان، حيث كانا يكتبان مزاميرهما وغيرها من القصص الأسطورية، التي يستغلها الاحتلال للتغطية على أهدافه السياسية والتهجير القسري للفلسطينيين في المنطقة".
وبحسب التفكجي، عندما وضع البرنامج عام 1973، كان الاحتلال يهدف إلى أن يشكل الفلسطينيون في القدس نحو 25% مقابل 75% من المستوطنين. أما اليوم، فقد تغيرت الرؤية لتصبح 12% من الفلسطينيين مقابل 88% من المستوطنين. وهذا ما يتحدث عنه العديد من المسؤولين الإسرائيليين بشكل صريح وعلني، حيث يسعون إلى جعل المدينة يهودية خالصة.
هدم رموز الصمود
وإلى جانب هدم منازل الفلسطينيين في حي البستان، نفذ الاحتلال عمليتي هدم لخيمة الاعتصام المقامة في الحي منذ 15 عاما، ومقر جمعية البستان القائم منذ 20 عاما.
وفي هذا السياق، أشار عضو لجنة الدفاع عن أراضي سلوان فخري أبو دياب، إلى أن الاحتلال بدأ بهدم رموز الصمود في الحي، حيث كانت الخيمة تمثل رمزاً للمقاومة والفعاليات التي ينظمها أهالي الحي والمتضامنون معهم ضد سياسة الهدم والتهجير والطرد. ومن خلال هذا الهدم، أراد الاحتلال إزالة عقبة مهمة قبل أن ينتقل إلى حسم مسألة هدم المنازل السكنية. ذلك بزعم أن هذه الأماكن كانت تحرض الناس على رفض مخططات البلدية. ولذلك، وصف أبو دياب عملية هدم الخيمة بأنها "هدم لرأس الصمود".
لقد كانت الخيمة، إلى جانب سكان الحي والمجاورين من أهل القدس، شاهدة على العديد من الزيارات التضامنية التي شملت القناصل والسفراء وممثلي المؤسسات الدبلوماسية والقانونية، بالإضافة إلى هيئات الأمم المتحدة. كما استقبلت الخيمة زيارات من شخصيات دولية بارزة، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بعد انتهاء ولايته، ونائب الأمين العام للأمم المتحدة السابق، وفقا للباحث.
وبحسب أبو دياب، فإنه في آخر خمس سنوات، زار أكثر من 200 حقوقي يمثلون القانون الدولي هذه الخيمة، بالإضافة إلى ستة أشخاص حاصلين على جائزة نوبل للسلام. وكانت هذه الخيمة تمثل همزة وصل بين حي البستان والمجتمع الدولي، ولذلك كان الاحتلال حريصاً على إزالتها بسبب رمزيّتها.
أما جمعية البستان، فهي مؤسسة عامة كانت تقدم خدمات للأطفال والنساء في الحي، وتساهم في دعم المجتمع المحلي وتعزيز صموده. ولذلك، سعى الاحتلال إلى اجتثاث هذه المؤسسة التي كانت تمثل أحد مقومات الثبات في وجه المخططات الإسرائيلية. ورغم الضغوط من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والسفارة الفرنسية التي كانت تمولها، إلا أن الاحتلال تجاهل هذه الضغوط، ما يدل على تجاهله للقانون الدولي.
وطالبت فرنسا سلطات الاحتلال، بتقديم ما أسمته بـ "تبريرات" لعملية الهدم، مشيرة إلى أن هذا الإجراء يأتي في سياق سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تعتبر غير قانونية وفقًا للقانون الدولي، كما أنه يهدد حل الدولتين والوضع القانوني لمدينة القدس.
وفي هذا السياق، دعا أبو دياب المجتمع الدولي إلى التحرك الفعلي بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات والاستنكارات، مطالباً بفرض عقوبات أو قيود على الاحتلال كي يكون الضغط حقيقياً وفعّالاً، وليس مجرد استنكار شكلي.