منذ بدء حجيج رؤساء الدول الإمبريالية صبيحة الثامن من أكتوبر 2023 للكيان الصهيوني المصدوم، مروراً بفتح مخازن أسلحة وعتاد وذخائر هذه الدول، بما فيها خبراتها وخبرائها، وصولاً للمشاركة الفعلية، بأكثر طريقة في حرب الإبادة، وتوفير الغطاء السياسي والقانوني الدولي لها، منذ لك الحين، ومروراً بكل هذه المحطات، قدّمت لنا تداعيات معركة الطوفان، وقائع فعلية تعكس وتؤكد طبيعة العلاقة بين المشروع الصهيوني في فلسطين، ودولته، وبين مجمل الدول الإمبريالية، الأوروبية منها والأمريكية، علاقة أعتقد أنها لم توفَ حقها من التناول في الكتابات السياسية السريعة واليومية في آن.
جرت العادة في الكتابات السياسية على توضيح تلك العلاقة، ببعديها السياسي والاقتصادي تحديداً، فسياسياً جرى تقديم دولة الكيان الصهيوني كقلعة متقدمة لحماية المصالح الإمبريالية في المنطقة، لأوروبا وأمريكا، فلم يكن تزويدها بأسنان نووية فرنسية في العام 1965، ولا اعتبارها ممثل يهود العالم، رغم أنها كدولة لا تحوي حتى ثلث يهود العالم، وبالتالي ضخ عشرات المليارات الألمانية عليها، في الخمسينيات والستينيات، لم يكن ليتم ذلك لمحض (الشعور بالذنب)، تجاه المقتلة النازية ضد اليهود في ألمانيا، فالشعور بالذنب والوازع الأخلاقي والإنساني، لا شأن له في الحسابات الإمبريالية.
ذات الثيمات الأيديولوجية/ الدينية
بتناول تاريخ نشأة الحركة والأيديولوجية الصهيونيتين، ولو بعجالة يقتضيها المقام، يمكن ملاحظة مظهرين أساسيين، الأول أنهما نشأا في رحم أيديولوجيا الرجل الأوروبي الأبيض ومشروعه، ونهلا من ذات الثيمات الأيديولوجية/ الدينية: شعب الله المختار، أرض الميعاد، الرسالة الحضارية، تمدين القبائل والشعوب، إلى آخر تلك المعزوفة التي رفع لواءها الرجل الأبيض الأوروبي، وكانت نتاجها المظاهر الأبرز دموية وهمجية في القرون الحديثة: إبادة ملايين السكان الأصليين في الأمريكيتين وشرق آسيا، واستعباد عشرات ملايين الأفارقة السود. ليس من تاريخ أكثر بشاعة من تاريخ الرجل الأبيض الأوروبي ومشروعه. الحركة والأيديولوجيا الصهيونية نهلت من ذات المنهل واستخدمت ذات الثيمات.
أما المظهر الثاني فهو التأثر بالفكر القومي الأوروبي آنذاك، الأمر الذي استدعى من المفكرين اليهود، المتصهينين لاحقاً، أمثال موسى هيرش، صياغة/صناعة فكر (قومي) يهودي، عبر تلقيحه بنيوياً بالنص التوراتي، فكر يمكن استخدامه كآلية لتجميع اليهود من بقاع الأرض حول فكرة الاستيطان. تلك العملية أطلق عليها المؤرخ الصهيوني شلومو ساند (اختراع شعب واختراع أرض) في الكتابين اللذين يحملان ذات العنوان، (يلزمه كتاب ثالث بعنوان اختراع قومية كنتاج للاختراعين السابقين)، فنشأ الفكر الصهيوني الذي جرى تقديمه كفكر قومي لليهود.
ومن المهم ملاحظة التالي: إن نزعة الإبادة والهمجية والاستعلاء والتفوق العنصري كلها وجدت الصهيونية في النص المعلن للرجل الأبيض المتلفع بعباءة المسيحية الصهيونية من جهة، وفي النص التوراتي من جهة أخرى، كنز منها تغرف منه.
لكل ما سبق يمكن القول إن الأيديولوجيا والحركة الصهيونية، هي بنت المشروع الاستعماري الأبيض الأوروبي، ولكن هذه المرة، مشروع صهيوني هدفه أرض المشرق العربي. وهنا يمكن ملاحظة التناقض المزمن الذي لا يجعل لهذا المشروع أي أفق مستقبلي في المنطقة.
من جهة فهذا المشروع هو مشروع غربي بامتياز، يتلاقى مع كل مشاريع الغزو الاستعماري الأوروبي للمنطقة، ومادته البشرية الأساس التي اعتمد عليها هي اليهود الغربيين، الأشكناز، ومع ذلك فجغرافيته هي أرض الشرق، ومادته العقائدية الدينية نصوص دينية نشأت في الشرق، نتاج لكل التراث الأسطوري الديني المشرقي، وتحديداً في منطقة بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث تمت كتابة النص التوراتي، هذا التناقض الملازم للمشروع الصهيوني يجعل منه نبتاً غريباً في المنطقة لا يمكن على المدى الاستراتيجي القبول به وبقائه.
كل ما يقوم به الكيان الصهيوني منذ 14 شهراً، وذاك التدافع الإمبريالي الغربي الهائل لإسنادة، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، واتخاذ موقف معادٍ هجومي تجاه كل مَنْ ينتقد ممارسات الكيان، وكل ذلك رغم وضوح همجيته ودمويته وتأكيدها على مستوى مؤسسات حقوقية وقانونية عالمية، يؤشر أن العلاقة، بفعل التاريخ والثيمات الموحّدة، والممارسة على الأرض ( الاستعلائية، الإبادة، العنصرية)، تتجاوز العلاقة الاقتصادية والسياسية لتطال علاقة الانتماء الأيديولوجي لذات المشروع: مشروع الرجل الأبيض الغربي العنصري.
استتباعاً، تتأكد حقيقة الصراع الوجودي بين كيان يستهدف إبادة شعبنا ومحوه تماماً من التاريخ، تمثلاً واستمراراً ل/ وبكل الإبادات في التاريخ الحديث، والتي كان (بطلها) الرجل الأبيض الأوروبي، وبين شعب يروم حرية وطنه، وقبل ذلك دفاعاً عن وجوده.