شاهد العالم بأسره في زمن العدسات التي تبث على مدار الساعة عملية استسلام/تسليم للأرض والدولة لا تخطئه العين. وفي نظرة العين المجردة ذاتها لن يكون هناك صعوبة في إدراك الاتفاق التركي مع الإسرائيلي والأمريكي الذي كان لا مناص أمام الروسي والإيراني إلا التسليم به.
الاسرائيلي تقدم بسرعة ربما مع دخول المجموعات المسلحة إلى دمشق وسيطر على القنيطرة وشريط لا بأس به داخل الحدود السورية المجاورة لفلسطين المحتلة.
أما الأمريكي وميليشياه الكردية فاكتفى بما لديه من أراض شاسعة نسبياً، بينما تركت فلول الجيش السوري للتجمع في الساحل شمال الحدود اللبنانية التي يحظر الإسرائيلي الاقتراب منها باعتبار أن الجزء الأهم من القصة كلها هو حصار المقاومة اللبنانية. ترك الساحل على ما يبدو ليسمح لبعض الوقت ببقاء القاعدة العسكرية الروسية، وربما أن هذا هو جوهر الترضية التركية لموسكو على الرغم من أن البعض يذهب إلى افتراض أن روسيا تلقت وعداً سخياً بتسليمها رقبة أوكرانيا في مقابل تخليها عن سوريا.
من جهتنا لا نميل إلى سيناريو المؤامرات، ونفترض أنه عند وجود مؤامرة بالفعل، فإنها تكون أمراً اضطرارياً يحتمه ميزان القوى أكثر من كونها حبكة أنتجتها محادثات ومفاوضات ومساومات.
الاحتلال التركي/الأمريكي/الإسرائيلي الكامل تقريباً للأراضي السورية يحقق هدفاً مزدوجاً غاية في الإلحاح والأهمية: عزل المقاومة اللبنانية نهائياً تقريبا، وتوجيه ضربة قوية مادية ومعنوية لفكرة محور المقاومة وواقعه على حد سواء.
وسنجد أن إيران صغرت في حجمها الإقليمي بدرجة هائلة منذ صباح هذا اليوم، وأنها لن تعود قادرة على فعل شيء خارج حدودها أكثر من الكلام الذي يبرع فيه العرب أكثر من غيرهم. لقد كان حضور إيران الإقليمي عبر سوريا في المكان، وعبر المقاومة اللبنانية في الفعل والإمكان، هو الأهم، والآن تعود إلى حدودها "الطبيعية"، أو ربما تضطر إلى توسيع دعمها لأنصار الله في اليمن والحشد الشعبي في العراق لكي لا تخسر حضورها في الخليج أيضاً.
بالنسبة لروسيا: قدمت مساهمة مكلفة في الدفاع عن سوريا منذ العام 2015 في سياق تحرق بوتين المحموم لأن يستعيد جزءاً من دور الاتحاد السوفييتي وهيبته، وقد كان له ما أراد، ولكن تورطه غير المحسوب، الذي كشف ما اعتدت على تسميته ب "حدود القوة الروسية" أضعف مكانة روسيا وهيبتها حتى وصلت الأمور أن تتجرأ عليها دول لا جيوش لديها مثل السويد.
وفي سياق الهجوم على روسيا وصولاً إلى محاولة إخراجها من نادي الدول العظمى فإن إخراجها من قواعدها الوحيدة في الخارج، وتحريك الاضطرابات في جارتها جورجيا يشكلان أنشطة مهمة وفاعلة على ذلك الطريق. وعندما نختم بالولايات المتحدة وإسرائيل سنجد أن إنجازات عظيمة قد تحققت على الفور.
يمكن لنا الآن أن نعلن من واشنطون ولادة الشرق الأوسط الجديد المطروح علناً من بداية الألفية. لقد كان العنصر الشاذ في الشرق الأوسط هو دولة البعث السورية القومية بقيادة عائلة الأسد، وها هو الباب ينفتح على مصراعية لشرق أوسط متجانس في طاعة أمريكا والولاء لها مع مد يد التعاون والصداقة لإسرائيل.
لن تواجه إسرائيل قوى تهرب السلاح لحماس ولا لحزب الله، وهكذا يتوافر لأول مرة إمكان واقعي جدي لخنق المقاومتين تماماً أو تجويعهما حد الهزال التام على أقل تقدير. ستنعم إسرائيل بجيران محبين مسالمين دون استنثاء: مصر في الجنوب، والأردن في الشرق، ولبنان وسوريا في الشمال والبحر المتوسط في الغرب. لا تهديد من أي نوع تقريباً للدولة العبرية، ولا بد أن ذلك سيفتح شهيتها للتوسع في الاتجاهات المختلفة ناهيك عن تسريع العمل من أجل تفريغ ما تبقى من فلسطين من سكانها والاستيلاء على الأرض كلها إن أمكن.
لعل "العزاء" الوحيد في تراجيديا احتلال سوريا هو فرحة جزء كبير من العرب والسوريين، وهي الفرحة ذاتها التي شهدناها يوم احتلت ليبيا وقتل رئيسها القذافي اغتصاباً على يد هلاري كلينتون وعصابات قطر وتركيا وإسرائيل.
اليوم الفرحة أوسع وأعم وأشمل بسبب العداء التاريخي بين حركة الإخوان المسلمين والدولة السورية، وهذه الحركة الواسعة الانتشار تؤثر تأثيراً كبيراً خارج نطاق أعضائها وتتمتع بشعبية تؤهلها للفوز في أية انتخابات نزيهة في أي بلد عربي تقريباً.
هناك فرحة حقيقية فحواها أن الكافر العلوي قد سقط وأن الإسلام الصحيح قد جاء في صورة نصر إلهي مؤزر. هناك أيضاً فرحة العلمانيين بسقوط الدكتاتورية، وهذه الفكرة وفكرة سقوط الطاغية يتشارك فيها العلمانيون والإخوان وجزء كبير من المواطنين العاديين. ذلك أن فكرة الديمقراطية والحرية ...الخ أصبحت ايديولوجيا رائجة وتتمتع بقدسية البقرة في الهند.
بل إن كثيراً من الناس يتوهم أن مجيء الديمقراطية سيؤدي فوراً إلى تحرير فلسطين وبناء المصانع والجيوش والاستقرار والرفاه في لمح البصر. من الصعب بالطبع إقناعهم عن طريق الأمثلة السابقة حتى عندما تكون ماثلة أمام العين من قبيل ليبيا ولبنان وتونس...الخ يظل الناس أوفياء لقاعدة هيغل "الشيء الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئاً من التاريخ."
لذلك يتوهم الفرحون أن الإسلام والعزة والعدالة والمنعة والازدهار في حاجة إلى أسابيع على الأكثر، وهكذا يتوقع العلمانيون الحريات الليبرالية على وجه السرعة، ويتوقع معظمهم تحرير فلسطين بعد وقت ليس بالطويل.
ينسى هؤلاء أو لا يعرفون أن سوريا بذاتها لم تكن تشكل خطراً على إسرائيل، وأبسط دليل على ذلك النشيدة المكررة على مدار السنين أن الأسد لم يطلق رصاصة ناحية الجولان، ونستطيع الآن أن نحيلهم إلى انهيار الدولة أمام العصابات التركية بسرعة هائلة دليلاً حياً على عجزها عن تهديد إسرائيل.
لقد كانت جريمة سورية التي دفعت ثمنها هو انضمامها لمحور المقاومة وتسهيل وصول الإمدادات لغزة ولبنان، ولا بد أن خنق غزة ولبنان وإضعاف إيران هي الأهداف الرئيسة لإسقاط نظام البعث والأسد، هذا إذا أغفلنا أطماع اردوغان ونتانياهو في الأرض السورية.
من هذا المنطلق نرغب في إخبار المبتهجين بأسف شديد أن الآتي ليس الإسلام ولا الديمقراطية ولا الرخاء، وإنما نظام/نظم تابعة للاحتلال المباشر التركي والإسرائيلي والأمريكي. وما ينفذ على الأرض سيكون في خدمة تكريس إخضاع المنطقة كلها لمقتضيات مصالح الاستعمار الكوني مع فرعيه الإقليميين الإسرائيلي والتركي.
هذه هي اللوحة الواقعية بدون مساحيق تجميل، اما احتمالات المستقبل فإننا لا نستطيع نحن أو غيرنا أن نضمنها بالمطلق، فقد تتمكن المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية من إيجاد سبل للعيش على الرغم من قسوة ما جري ويجري، كما أن السنوات المقبلة قد تحمل دخول الصين إلى الساحة العالمية بما فيها منطقتنا التي لم تنبس بكين حولها ببنت شفة منذ ثلاثة أيام على الأقل.
وهكذا بانتظار ولادة متغيرات أخرى، يبدو ما حدث انتصاراً صافياً للاستعمار في منطقتنا وتراجعاً لا يستهان به لقوى المقاومة العربية والإقليمية.