على الرغم من محاولات الاحتلال للقضاء على كتائب المقاومة في الضفة الغربية من خلال تصفية قادتها ومطاردة أفرادها، لا تزال هذه الكتائب تجد طريقها إلى الاستمرار. من رائد الكرمي إلى سيف أبو لبدة، ثم أمير أبو خديجة وصولاً إلى أبو شجاع، تجسد هذه الأسماء نهجًا مستمرًا للكفاح المسلح في وجه الاحتلال.
يستمر الاحتلال الإسرائيلي في فشله الواضح بالقضاء على المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، رغم اعتماده على سياسة الاغتيالات المستهدفة بحق القادة الميدانيين. ففي عام 2002، وصف نائب رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي السابق، إسحاق إيلان، الشهيد رائد الكرمي، قائد كتائب شهداء الأقصى في طولكرم، بأنه "ابن الموت"، مؤكدًا على ضرورة تصفيته في محاولة لشل حركة المقاومة في المدينة.
ظن الاحتلال أن اغتيال الكرمي سيضعف المقاومة، جاءت السنوات لتثبت العكس. بعد مرور 19 عامًا، وفي أواخر عام 2021، تأسست كتيبة طولكرم على يد القائد الشهيد سيف أبو لبدة، الذي حمل راية الكفاح المسلح مجددًا واضعًا هدفًا رئيسيًّا أمامه وهو التصدي للقوات الصهيونية التي تقتحم مخيم نور شمس. عمل أبو لبدة على تطوير الكتيبة، وذلك عند خروجه من سجن الاحتلال بعدما تم إعتقاله عام ٢٠٢٠ وهو يُعاني من إلتهاب العصب السابع، وساعده في ذلك صديقه المقرب قائد كتيبة جنين الشهيد عبدالله الحصري. عُرف أبو لبدة باندفاعه لخلق جوّ من الأرياحية داخل بيئته؛ ففي مقابلة سابقة مع والدته، روت أن الشهيد كان لا يسمح لأي توتر بين شباب المخيم بأن يكبر ويتطور، بل على العكس، عند كل حادثة يقصده الشباب لحل المشاكل. وفي آذار 2022، تم الإعلان رسميًا عن انطلاقة الكتيبة، قبل أن تغتال القوات الخاصة الإسرائيلية أبو لبدة واثنين من رفاقه في جنين ، بالتنسيق مع جهاز الشاباك بعد شهر من التأسيس.
رغم هذه الجريمة، لم تتوقف المقاومة، بل شهدت تطورًا سريعًا. ففي نيسان 2023، تأسست كتيبة "الرد السريع" في طولكرم على يد الشهيد أمير أبو خديجة، كردّ فعل على مجزرة نابلس التي أودت بحياة 11 فلسطينيًا، وقد تم تسمية الكتيبة تيمناً بالقائد الشهيد رائد الكرمي الذي اشتهر بلقب "صاحب الرد السريع" على اعتداءات الاحتلال.
وُلد أبو خديجة في غزة وعاش حياته هناك قبل أن ينتقل مع عائلته إلى طولكرم وينضم إلى الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية لفترة من الزمن، لكن علاقته بالعمل المقاوم أدت الى محاكمة أبو خديجة في المحكمة العسكرية وفصله عام 2019. وبعد خروجه من سجن الاحتلال الذي قضى فيه قرابة العام، أصبح أمير أبو خديجة القائد الأبرز لكتيبة طولكرم وبرز في عهده انتقال المقاومين من التصدي الى الاستهداف، حتى أصبح المطلوب الأول لدى الاحتلال بسبب ما شكله من خطر على المستوطنات الاسرائيلية. لكن الاحتلال لم يتأخر كثيرًا في اغتيال أمير أبو خديجة خلال عملية عسكرية في عزبة شوفة جنوب شرق طولكرم.
أبو شجاع، القائد الذي أبى الرحيل صامتًا: "بدي أعمل حالة من بعدي"
بعد فترة قصيرة من استشهاد أمير أبو خديجة، برز اسم القائد المطارد محمد الجابر، المعروف بلقب "أبو شجاع"، الذي ساهم بشكل كبير في تأسيس كتيبة طولكرم إلى جانب الشهيدين سيف أبو لبدة وأمير أبو خديجة في مخيم نور شمس.
بدي أعمل حالة من بعدي"، هكذا ودّع أبو شجاع أرض مخيم نور شمس، مؤكداً عزمه على ترك بصمة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وهو ما تحقق بالفعل. في 29 آب 2024، ضج العالم العربي بخبر إرتقاء أبو شجاع شهيدًا خلال اشتباكات عنيفة في مخيم نور شمس، بعد أن حاصرته قوات الاحتلال مع أربعة من رفاقه. وقد بات اسمه مرتبطًا بالعديد من العمليات النوعية التي استهدفت قوات الاحتلال في طولكرم. وعلى الرغم من محاولات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لاغتياله عدة مرات خلال العامين الماضيين بعد خروجه من السجن الذي أُدخل إليه عندما كان في السابعة عشرة من عمره وقضى فيه 5 سنوات ، إلا أن أبو شجاع ظل صامدًا حتى آخر لحظاته. ورغم ملاحقته من قبل الاحتلال، لم يكن أبو شجاع بمنأى عن مضايقات السلطة الفلسطينية. فقد تعرض للاعتقال مرتين من قبل أجهزتها الأمنية، في إطار محاولات السلطة للحد من نشاطه المقاوم واحتوائه. ولكن تلك الاعتقالات لم تؤثر في عزمه، إذ واصل طريق المقاومة بلا هوادة، ليصبح رمزًا للجيل الصاعد.
المقاومة تُواصل.. رغم كل المحاولات
طوال مسيرته، ظهر أبو شجاع في العديد من الإطلالات الإعلامية، ليصبح الملهم الأول للشباب الفلسطيني والمطلوب الأول للاحتلال في الضفة الغربية. قبل استشهاده، شارك في تأسيس كتيبة طولكرم مع مجموعة من الشباب المقاومين الذين لم يتعدَّ عددهم 10 أفراد. ومع مرور الوقت، تطورت الكتيبة من مواجهة قوات الاحتلال بالأسلحة الرشاشة إلى استخدام العبوات الناسفة، ما جعلهم يشكلون تهديدًا كبيرًا لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، وخاصة في طولكرم. خلال عملية "رعب المخيمات" التي نفذتها قوات الاحتلال، تمكن شباب المقاومة من إلحاق خسائر كبيرة بالعدو، مؤكدين أن محاولات القضاء على المقاومة لم تؤت ثمارها. واليوم، بعد استشهاد أبو شجاع، تستمر كتيبة طولكرم في التصدي للاحتلال، تاركة أثرًا عميقًا في نفوس أطفال المخيم، الذين نشأوا على حب المقاومة وإصرارها على الاستمرار.
يظهر فشل الاحتلال في اعتماده واستمرار على نهج إغتيال قادة المُقاومة ورغم كل محاولات الاحتلال للقضاء عليها عبر التصفيات المستمرة، تمتلك الكتائب في الضفة الغربية قدرة استثنائية على التجدد والاستمرار. من رائد الكرمي إلى أبو شجاع، تتضح ملامح نضال طويل مبني على الإيمان بحق الحرية والمقاومة.رغم كل الظروف القاسية والضغوطات، تستمر المقاومة في خلق قادة ميدانيين جدد، يرفعون الراية من بعد من سبقوهم، ويواصلون التصدي لقوات الاحتلال. إن هذه الأسماء والقصص، التي تتعاقب جيلاً بعد جيل، تحمل في طياتها رسالة واضحة بأن إرادة الشعب الفلسطيني لا يمكن كسرها، وأن المقاومة ستظل على الدوام الجزء الأساسي من واقع الصراع حتى دحر الاحتلال.