أُعيد هنا نشر مقالة حول انتفاضة العام 1987 في ذكراها ال 37، كنت نشرتها في مجلة الهدف قبل أعوام، وذلك لاعتقادي أن فكرتها الرئيسة ما زالت تحظى بالأهمية اليوم، خاصة في ظرف سعي شعبنا في القطاع لمواجهة ظروفه المعيشية الصعبة، بمبادرات شعبية وجدت طريقها في الانتفاضة، رداً على سياسة التجويع التي يجري تطبيق جزء منها من عصابات السرقة والنهب المدعومة من الكيان الصهيوني.
في البدء كان التنظيم!
لم تكن الانتفاضة الشعبية الكبرى في العام 1987 محض اشتباك سياسي واسع ومفتوح مع المحتلين الصهاينة، بل كانت أيضاً تتويجاً لمرحلة من البناء التنظيمي، الحزبي والشعبي، على نطاق واسع، كما و(عَرْضْ) مكتمل بعد سلسلة من البروفات/النضالات/ المعارك الشعبية مع المحتلين منذ استكمال استعمار فلسطين في العام 1967. فوفق قانون التراكم، الهيغلي/ الماركسي، لم تندلع الانتفاضة من فراغ بطبيعة الحال، بل كانت في المحصلة النهائية تطور كيفي جديد رسم معالم المواجهة مع الاستعمار الصهيوني، وفرض حضور فلسطين المحتلة بقوة على خارطة الصراع.
امتاز العمل الفلسطيني حتى نهاية السبعينيات بالاجمال، ونكاد نقول حصراً، بظاهرة العمل الفدائي، باستثناء المعركة ضد مشروع الإدارة المدنية نهاية السبعينيات، وصولاً للتصدي لمشروع مناحيم ميلسون مطلع الثمانينيات، وهذا الأخير، ميلسون، المستشرق والأكاديمي الصهيوني، كان يحاول نقل تجربة الاستعمار البريطاني في الثلاثينيات، عندما حاول المستعمرون تحريك الريف ضد المدينة وفق آليات (تطويق الريف للمدينة)، المدينة باعتبارها عصب الفعل السياسي الوطني، لضرب الحركة الوطنية الناشئة، فكانت النتيجة وليد مسخ، اسمه روابط القرى العميلة، فاندحر المشروع ومعه صاحبه.
منذ مطلع الثمانينيات، وتحديدا بعد الهزيمة العسكرية التي لحقت بالثورة في لبنان، رغم بطولة التصدي، وخروج قواتها من لبنان، وفقدان قاعدتها الأساسية، بدأ توجيه الاهتمام لبناء أدوات العمل التنظيمي والجماهيري في الداخل، باعتبارها ركيزة كفاحية جديدة لتعويض الخسارة في لبنان. وللحقيقة، لم يبدأ التفكير ببناء تلك الأدوات بعد 1982، وإن اكتسبت بعد هذا العام دفعة جديدة واهتمام أوسع نتيجة خروج المقاومة من لبنان. فمنذ نهاية السبعينيات بدأت الفصائل ببناء أدوات تنظيمية شعبية لمختلف القطاعات، بدأت بأطر العمل الطلابي في العام 1979 لتتابع في القطاعات الأخرى: العمال والنساء والثانويات ولاحقا المهنيين: مهندسين وصحافيين ومدرسين وأطباء. وقد كان ذلك التوجه غير مقتصر على الجبهة الشعبية، بل وفعلت ذات الشيء فتح والجبهة الديموقراطية، ناهيك عن أن الشيوعيين كان لهم نشاطهم وأدواتهم الجماهيرية قبل ذلك، غير أن محدودية تواجدهم السياسي والتنظيمي لم يمكّنهم من طبع النضال في الداخل بطابع جماهيري واسع. إن الشروع ببناء أدوات العمل التنظيمي الجماهيري كان رافعة الانطلاق لمهام متعددة على الصعد الجماهيري والنقابية والكفاحية، والتربوية أيضاً.
المنظمات الجماهيرية رافعة التربية الوطنية والثورية
باستعادة المقولة اللينينية حول مركزية الحلقة التنظيمية يمكن القول دون تردد أن تجربة النضال الوطني الفلسطيني أكدت مصداقية تلك المقولة الهامة، فبالتقاط تلك الحلقة وحل مفاصلها الهامة، يمكن الانطلاق لحل كافة المسائل، فالتنظيم يضاعف القوى بعشرات المرات فيما غرامشي نقل الفكرة لحدود التلاقح مع الممارسة الثورية عندما أكد أن (التنظيم هو حقل التوسط بين النظرية والممارسة)، فعشرات النظريات والمواقف والتحليلات والتوجهات الثورية لن تسوى شروى نقير إن لم يتوفر الحامل، الوسيط/ التنظيم، لنقلها لحيز الممارسة. لذلك يمكن القول إن بناء الادوات التنظيمية الجماهيرية منذ مطلع الثمانينات كان كفيلاً بحل كافة مهام النضال ضد المستعمرين من جهة، كشكل رئيس للنضال يعكس التناقض الرئيس مع المستعمرين، وأيضا لحل مهام النضال النقابي/ الطبقي دفاعاً عن مصالح الفئات الشعبية، من طلبة وعمال وفلاحين ومهنيين.
وباعتبار القيم الاساس الذي يوجه السلوكيات سواء بين المجموعة البشرية ذاتها على اختلاف سعتها، من الشعب حتى (شلة) الاصدقاء، كان لضخ القيم التربوية، الوطنية والثورية، بين المنتمين للمنظمات الجماهيرية أهمية مزدوجة، فمن جهة تُحدد تلك القيم معايير السلوك بين أعضاء المنظمة، ومن جهة ثانية تحدد معايير السلوك في العلاقة مع الجماهير، دون إغفال ما تتركه تلك القيم من تأثيرات على تكوين الشخصية الوطنية كشخصية بذاتها وفي علاقتها بالمجموع، المنظمة أو الجماهير.
ويمكن اعتبار منظومة القيم التي جرى السعي لتمليكها للأعضاء عبر التربية، تندرج في إطارين أساسيين، الأول منظومة القيم المستقاة من التراث القيمي الشعبي والوطني الفلسطيني والتي ترسخت عبر التاريخ، وخاصة في حقب النضال ضد المستعمرين البريطانيين والصهاينة، والثاني منظومة القيم المطبوعة بطابع يساري، والمستقاة من تجارب ملايين المناضلين اليساريين في العالم طوال القرن العشرين.
لذلك، فإن التثقيف الداخلي لعموم المنظمات الجماهيرية، ذراع الفصائل الوطنية، كان هو المدخل لضخ تلك القيم بشقيها: الوطني العام والطبقي/ الاجتماعي: روح العمل الطوعي، والانخراط بالجماعة بديلاً عن التقوقع على الذات، والإخلاص المطلق للوطن والشعب وحقوقه، والقناعة بعدالة القضية والنضال، والحقد على المستعمرين، ومساندة نضال المرأة ونزوعها للتحرر، والتواضع وعدم الرضى عن الذات، والانحياز المطلق للفقراء والكادحين، وغيرها الكثير من القيم التي عملت المنظمات الجماهيرية على ضخها في قطاع يصل لعشرات الآلاف من المناضلين الملتحقين بعضويتها.
من المهم الإشارة هنا للدور الذي لعبه الاسر في العملية التربوية، فتميز الجهد الثقافي والتربوي لمنظمات الأسر معروف ومشهود له سواء لجهة تنوع حقول هذا الجهد ( من الرواية وصولا للفلسفة وما بينهما من تاريخ ونظرية الحزب والتجارب الوطنية والثورية والاقتصاد,,,) أو لجهة اختلاف مستوياته ( قاعدية وكادرية).
وقبل الولوج للتلاقح الذي تم بين كل ما قيل أعلاه والفعل الانتفاضي، من الأهمية بمكان التأكيد أن الجهد الثقافي التربوي لم يكن بمعزل عن الممارسة الكفاحية بين الجماهير وضد المحتلين، فهذا الجهد لم يكن جهداً صالونيا موجهاً لهواة الثقافة، بل جهداً يتعمد بالممارسة ويغتني بغناها، جهد يرتبط بالممارسة ولا ينعزل عنها في تفارق واضح بين رؤيتين للثقافة: رؤية ترى فيها فعلاً اشتباكياً يسعى للتغيير ( تغيير العالم لا تفسيره حسب ماركس)، ورؤية ترى فيه نزوعاً ذاتياً يحلق في عالم الذات ليعود إليها!
القيم الثورية والوطنية حاضنة للفعل الانتفاضي
من نافلة القول أن الانتفاضة الشعبية الكبرى قد تجسدت فيها جملة من القيم الاجتماعية، الوطنية والثورية، كنتاج لمعطيين أساسيين أولها ما ترسخ في صفوف الجماهير من تربية وطنية وثورية في المرحلة السابقة، وخاصة الثمانينيات، تلاقحت مع النضال الشعبي ضد المستعمرين، وثانيها كنتاج للفعل الانتفاضي. لقد تجسدت تلك القيم في الفعل الانتفاضي نفسه، وبالتالي لم تكن معزولة عنه، بل هي حاضنة ورافعة للفعل ذاته، تؤثر فيه وتتأثر به.
إن استعراض مجمل فعاليات الانتفاضة سيؤشر إلى منظومة القيم التي سادت في ظلها. التضامن مع المناطق المحاصرة، والسعي لتزويدها بالغذاء والدواء، احتضان أهالي الجرحى والشهداء والأسرى عبر الزيارات والدعم المالي والمعنوي، برامج التكافل الاجتماعي للفقراء، الالتزام الصارم بقرارات القيادة الوطنية الموحدة لتصعيد الانتفاضة، تشكيل اللجان الإغاثية، الزراعية والطبية، لتقديم الإسناد للأرياف باعتبارها الأكثر تضرراً، إسناد العمال الفلسطينيين في امتناعهم عن العمل داخل الكيان الصهيوني، الفعاليات الإسنادية التضامنية من مجاميع حزبية في منطقة 48، الانخراط الواسع للمرأة في الفعل الانتفاضي، تفكك العلاقة السلطوية الأبوية تجاه الأبناء، العودة للأرض لزراعتها وتنظيم الفعاليات الطوعية لإسناد الفلاحين، كل تلك الفعاليات تؤشر كما قلنا لجملة قيم سادت خلال الفعل الانتفاضي، حتى بات من البديهي على جيل الانتفاضة، وكاتب هذه السطور عاصر ما قبلها وما بعدها، أنه وعبر وصفه، والمقارنة دائماً مغرية منهجياً، لحالة القيم اليوم لا يجد أمامه إلا ( التحسر)، على جملة القيم التي سادت حينها وانحسرت اليوم بفعل ثقافة أوسلو الفردانية، المستندة لتوجهات ليبرالية تنشد التطبيع مع المستعمر والواقع ولا تحفز على المقاومة.
إن محور تلك القيم، ولو شئنا الامساك بالجوهري، نقول إن جوهر تلك القيم كان تغليب الروح الجماعية على الروح الفردية، فالانتفاضة فعل شعبي جماعي منظم، وبذات الوقت أبوابه مشرّعة للإبداع الفردي. فضمن انخراط الفرد في الجماعة تشكل الفعل الانتفاضي لتكون تلك القيمة جوهر الفعل الانتفاضي.
كما ويمكن الإشارة إلى الروح التضحوية العالية التي ميزت الفعل الانتفاضي. إن صورة الطفل الغزي الذي يواجه الدبابة بحجر غدت فعل بطولة يتضمن رمزاً قيمياً ووطنياً عالمياً للكفاح ضد المستعمرين، كما غدت صورة استشهاد الدرة رمزاً لفاشية الصهيونية الاستعمارية.
لم تكن القيم المبثوثة في الاشتباك الانتفاضي بمعزل عن (وظيفتها) الإشتباكية، فهي بنت الممارسة وروحها، غذّت الاشتباك وتطورت عبره، وفي هذا نموذج فريد للتلاقح بين منظومة الثقافة، ومنها القيم والسلوكيات، وبين الممارسة الاجتماعية، هي اقتران القول بالفعل في رد شعبي على النزوع البرجوازي المنافق ب(ثقافته) الذي يهتك العلاقة، فيتحول الحديث عن القيم لجعجعة لا تغني ولا تسمن جوع.
سواء على مستوى التصدي للمستعمرين أو العلاقات بين الجماهير من جهة، وطليعتها المنتفضة وبينها من جهة ثانية، او في كافة أوجه الاشتباك الانتفاضي، التعليم، الصحة، الزراعة، المقاطعة، التصدي للمستعمرين، وغيرها عشرات العناوين يمكن تلمس تلك الروح الطوعية الجماعية التي ميزت الاشتباك الانتفاضي.