الأحد  15 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الثورة والاستعمار: قراءة في السياقات السورية والفلسطينية/ بقلم: ياسر مناع

2024-12-15 08:13:36 AM
الثورة والاستعمار: قراءة في السياقات السورية والفلسطينية/ بقلم: ياسر مناع
ياسر مناع

شاهدت في الآونة الأخيرة مقاطع فيديو على منصة "تيك توك"، تحمل مقارنات بين ما جرى في سوريا من ثورة شعبية ضد النظام القائم، وبين ما يجري اليوم في غزة من حرب إبادة شنتها إسرائيل في أعقاب هجوم المقاومة الفلسطينية المباغت في السابع من أكتوبر 2023. هذه المقارنة، غير منطقة، كما تفتقر إلى أسس فلسفية وسياسية متماسكة. إذ أن السياقين مختلفان جذريًا، سواء في الأسباب الجذرية للحرب، أو في طبيعة الأطراف، أو في الأهداف النهائية التي تحرك كلاً منهما.

الثورة السورية: رفض الاستبداد وصراع على السيادة

في الحالة السورية، برزت الثورة الشعبية كحركة جماهيرية واسعة سعت إلى إسقاط نظام سياسي استبدادي حكم لعقود، مستخدمًا أدوات القمع العنيف لإخضاع شعبه. هذه الثورة كانت تعبيرًا عن رفض المجتمع السوري لسلطة النظام القائم، وإن كان سرعان ما تحول المشهد إلى نزاع متعدد الأبعاد. فقد دخلت المصالح الدولية والإقليمية على خط الأزمة، فتحولت سوريا إلى ساحة مفتوحة للحروب بالوكالة، حيث سعت دول كبرى وإقليمية إلى تحقيق مصالحها عبر دعم أطراف متنازعة.

حتى في ذروة العنف والاقتتال، ظلت سوريا تُعامل كدولة ذات سيادة، بمعنى أن النظام الحاكم - رغم جميع الجرائم المرتكبة - لم يُفقد الاعتراف به كجهة شرعية تمثل الدولة السورية. هذا الاعتراف الدولي، ولو ضمنيًا، فتح المجال أمام أطراف خارجية لدعم المعارضة السورية علانية بالسلاح والموارد دون أن تواجه عقوبات أو قيود قانونية. كما أن إسرائيل، العدو التقليدي للنظام السوري، لم تسع إلى إلغاء وجود الدولة ذاتها، بل نظرت إلى النظام في بعض المراحل بوصفه شريكًا محتملاً لاتفاق سلام مستقبلي.

المقاومة الفلسطينية: صراع وجودي ضد الاستعمار الاستيطاني

أما في الحالة الفلسطينية، فإن جوهر الصراع يختلف اختلافًا جوهريًا، إذ لا يتعلق بنظام سياسي محلي أو حتى بصراع داخلي بين أطراف محلية، بل هو مواجهة مباشرة مع استعمار استيطاني يسعى إلى محو وجود الشعب الفلسطيني ذاته. منذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم، تمثل المشروع الصهيوني في مصادرة الأرض وتهجير السكان وإحلال مستوطنين مكانهم، متبنيًا استراتيجية الإبادة الممنهجة أو التهجير القسري لتحقيق هدفه الأساسي: السيطرة الكاملة على الأرض دون الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني كشريك سياسي أو حتى ككيان وطني.

في هذا السياق، تعتبر أي محاولة فلسطينية للتحرر عملاً "غير مشروع" من وجهة النظر الإسرائيلية والدول التي تدعمها، ويُواجَه هذا العمل بأقصى درجات العنف. بل إن المجتمع الدولي، الذي يدّعي دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، يتبنى معايير مزدوجة عند التعامل مع القضية الفلسطينية، حيث يُجرَّم دعم المقاومة الفلسطينية ماديًا أو عسكريًا.

على عكس المشهد السوري، لا تتوفر للفلسطينيين أي قنوات مفتوحة للدعم العسكري أو اللوجستي المباشر. كل سلاح يصل إلى غزة أو الضفة الغربية هو نتيجة جهود معقدة من التهريب والتخفي، مما يعكس حجم التحدي الذي تواجهه المقاومة الفلسطينية في ظل حصار شامل ومستمر.

أبعاد فلسفية: اختلاف جوهر الصراع

من زاوية فلسفية، يمكن فهم الاختلاف بين السياقين السوري والفلسطيني من خلال النظر إلى طبيعة الصراع ذاته. الصراع السوري هو، في جوهره، صراع على السلطة ضمن كيان وطني قائم، حيث يهدف أحد الأطراف إلى تغيير طبيعة النظام السياسي القائم مع الحفاظ على الدولة كإطار جامع. أما الصراع الفلسطيني فهو صراع وجودي يتجاوز الأبعاد السياسية إلى مستويات أعمق تتعلق بالهوية والحق في الأرض والوجود ذاته.

في الحالة السورية، حققت الثورة أهدافها من خلال إسقاط النظام الحالي وإحلال نظام جديد. أما في الحالة الفلسطينية، فإن هدف التحرر لا يقتصر على إنهاء الاحتلال العسكري، بل يمتد إلى استعادة الأرض والحقوق التاريخية التي تم إنكارها بشكل منهجي منذ عقود.

هذا الفرق الجوهري يُظهر أن التعامل مع القضيتين بمنطق المقارنة المباشرة يُفضي إلى تسطيح معقد لكل منهما، إذ يغفل العمق التاريخي والبعد الاستعماري في الحالة الفلسطينية، كما يتجاهل تداخل العوامل الداخلية والخارجية في الحالة السورية.

دور الموقف الدولي والإقليمي: بين التواطؤ والتجاهل

على الصعيد الدولي، يكشف الموقف من القضيتين عن معايير مزدوجة تعكس اختلالاً في ميزان العدالة العالمية. ففي الحالة السورية، ورغم المعاناة الهائلة التي تكبدها الشعب السوري، حافظ المجتمع الدولي على اهتمامه النسبي بالنزاع، مدفوعًا برغبة القوى الكبرى في حماية مصالحها الجيوسياسية. أما في الحالة الفلسطينية، فإن الدعم الدولي يتراجع إلى مستويات رمزية، حيث تكتفي الدول بإصدار بيانات الإدانة التي لا تحمل أي قوة فعلية على الأرض.

ضرورة التفكيك لا المقارنة

إن محاولة إسقاط التجربة السورية على الحالة الفلسطينية أو العكس، دون التعمق في فهم الفروقات الجوهرية بينهما، يُعد اختزالاً مخلًا يُسهم في تعقيد الفهم بدلاً من توضيحه. السياق الفلسطيني والسوري، رغم اشتراكهما في معاناة الشعبين، يعبران عن تجربتين مختلفتين جوهريًا، تعكس كل منهما صراعًا ذا طبيعة فريدة يرتبط بالبنية السياسية والاجتماعية والتاريخية لكل منهما.

لذلك، فإن التفكير في الحلول أو في مستقبل كلا الصراعين يستدعي تجاوز منطق المقارنة السطحية، والاقتراب من تفكيك العناصر الخاصة بكل حالة على حدة، سعياً لفهم أعمق وأكثر إنصافًا للسياقات المتشابكة والمعقدة.

ختامًا، في عمق المأساة الإنسانية، يبدو أن الشعبين السوري والفلسطيني يشتركان في مصيرٍ مثقل بالمعاناة والظلم، وكأنهما صفحات متشابكة من كتاب واحد. كلا الشعبين عانى من نفيٍ متواصل، سواء كان النفي مادياً بتهجيرهم من أراضيهم، أو معنوياً بحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. على الجانب الآخر، تتشابه إسرائيل والنظام السوري المخلوع في ممارسة العنف كأداة لإسكات الأصوات وإحكام السيطرة. العنف هنا لا يقتصر على القتل والتدمير، بل يمتد ليشمل محاولات سحق الروح وتدمير الأمل.