منذ السابع من أكتوبر 2023، شهدت المنطقة تحولات استراتيجية عميقة أعادت رسم خريطة التهديدات التي تواجه إسرائيل. وبينما ركزت الجهود الإسرائيلية على جبهة غزة وقبلها لبنان، ظلت الجبهة الشرقية غائبة عن دائرة الاهتمام الجاد، حتى برزت مؤخرًا مؤشرات متزايدة على تصاعد التهديدات منها. هذا الإهمال الاستراتيجي يعكس محدودية قدرة إسرائيل على إدارة تحديات متعددة ومتزامنة، مما أضاف تعقيدًا جديدًا إلى مشهدها الأمني.
في هذا السياق، برزت جبهة اليمن، أو ما يُعرف بـ"جبهة الإسناد الحوثية"، كعامل تهديد استراتيجي متنامٍ. فقد استغل الحوثيون التطورات الإقليمية لتصعيد هجماتهم على العمق الإسرائيلي، مسلطين الضوء على العجز الواضح في الأداء العملياتي لمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وعجزها عن التصدي بفعالية لهذا النوع من الهجمات البالستية.
بعد الهجوم المفاجئ الذي قادته المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر، انخرط الحوثيون في الحرب على غزة وعملوا على توجيه ضربات نوعية نحو إسرائيل. ووفقًا لصحيفة "معاريف" العبرية، أطلقت الجماعة ما يزيد على 200 صاروخ باليستي و170 طائرة مسيّرة، مستهدفة العمق الإسرائيلي. هذه الهجمات ليست مجرد استعراض للقوة، بل تعكس تطورًا نوعيًا في قدرات الحوثيين وإتقانهم لأساليب غير مألوفة على إسرائيل.
أظهرت منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية "حيتس/السهم" عجزًا ملحوظًا في التعامل مع هذا النوع من الهجمات المتعددة. سابقًا، فشلت المنظومة في اعتراض أربع هجمات صاروخية متتالية – ثلاث منها أُطلقت من اليمن وواحدة من لبنان – ألقى بظلاله على مصداقية القدرات العسكرية الإسرائيلية. هذه الإخفاقات التقنية والعملياتية تُظهر أن الاعتماد الإسرائيلي على التكنولوجيا وحدها قد لا يكون كافيًا في مواجهة التهديدات غير المتماثلة.
تكرار إطلاق صفارات الإنذار في المدن الإسرائيلية، وما تبعه من لجوء أكثر من ثلاثة ملايين إسرائيلي إلى الملاجئ، خلق حالة التوتر الداخلي. كما أثارت هذه التطورات تساؤلات حول كفاءة القيادة العسكرية والسياسية في التعامل مع هذه التهديدات. الضغوط السياسية داخل إسرائيل، المتمثلة في الانتقادات الموجهة للحكومة، تعكس حالة من الإرباك في إدارة الأزمة مع اليمن، وهو ما يُضعف التماسك الداخلي.
على الجانب الآخر، يبدو أن الحوثيين يديرون عملياتهم بدقة استراتيجية تُراعي نقاط الضعف الإسرائيلية. فاستهداف المنشآت الحيوية والبنية التحتية يُظهر إلمامهم بحدود قدرات إسرائيل الدفاعية، مما يجعل هجماتهم أكثر تأثيرًا وإيلامًا. هذه الهجمات المتصاعدة تُبرز قدرة الحوثيين على توظيف التطورات الإقليمية لخدمة أجندتهم السياسية والعسكرية.
في مواجهة هذا التصعيد، تجد إسرائيل نفسها أمام خيارات محدودة ومعقدة. التعاون مع الولايات المتحدة لتوسيع نطاق العمليات قد يشمل استهداف قادة الحوثيين والبنية التحتية العسكرية في اليمن، لكن هذا المسار يحمل مخاطر تصعيد أوسع في المنطقة. كما أن التحركات الإسرائيلية الحالية تفتقر إلى استراتيجية شاملة تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الديناميكية للتهديدات المتعددة الأبعاد، نظرًا لبعد المسافة مع اليمن وقلة المعلومات الاستخباراتية مقارنة في لبنان وغزة والضفة.
إن استمرار الإخفاقات في مواجهة جبهة اليمن يسلط الضوء على حاجة إسرائيل إلى مراجعة شاملة لاستراتيجياتها الأمنية والعسكرية. تطوير قدرات دفاعية جديدة، واعتماد نهج استباقي يتعامل مع مصادر التهديد قبل تصاعدها، أصبحا أمرين ضروريين. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب الوضع تعزيز التنسيق مع الحلفاء الإقليميين والدوليين لضمان استقرار المنظومة الأمنية في المنطقة.
التحديات التي تفرضها جبهة اليمن بعد 7 أكتوبر تمثل اختبارًا صعبًا لإسرائيل، التي تجد نفسها أمام واقع جديد يتطلب تكيفًا سريعًا ومراجعة عميقة لاستراتيجياتها. إن غياب رؤية متكاملة للتعامل مع التهديدات الإقليمية يجعل إسرائيل أكثر عرضة للضغوط الداخلية والخارجية، مما يهدد أمنها القومي ويضعها أمام خيارات صعبة في المستقبل القريب.