يحاول نتانياهو أن ينصب نفسه إمبراطوراً متوجاً، من خلال ما يجري من تمدد اسرائيلي في المنطقة. فلسان حاله يقول، إذا كان من المتعذر طي وتهميش القضية الفلسطينية والسيطرة على المنطقة من مدخل التطبيع، فها أنا قد نجحت في فتح باب فرض دور ومكانة اسرائيل على المنطقة بالقوة العسكرية الغاشمة. نتانياهو الذي قاد بيئة التحريض على اغتيال رابين، نجح في اغتيال أي فرصه لحل سياسي منظور يقوم على تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. كما نجح أيضاً في إحداث تحولات في المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين الفاشي. ومنذ تشكيل حكومته الراهنة، أي قبل حرب الإبادة، قام بتغيير مضمون عقيدته السابقة" السلام الاقتصادي إلى برنامجه المعلن "خطة الحسم"، أي ضم الضفة الغربية، بما يتجاوز وعد ترامب المشؤوم" . وقد جاء خطاب نتانياهو وإبرازه لخارطة اسرائيل وموقعها في الشرق الأوسط أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة"سبتمبر 2023”، إيذاناً بإلغاء الجغرافيا الفلسطينية .
ايراد هذه المقدمة العاجلة لا يهدف فقط إلى تشخيص طبيعة اسرائيل الراهنة، بقدر ما يدعو إلى ضرورة البحث الجدي بمدى المسؤولية الفلسطينية إزاء هذا الانزياح.من الطبيعي، وأمام هذه الوقائع والتحولات الجارية في اسرائيل، أن تتباين الاجتهادات الوطنية حول كيفية إدارة الصراع لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للنضال الوطني. ولكن الذي لم يكن طبيعياً أو مقبولاً هو أن تتحول هذه الاجتهادات إلى استراتيجيات متناحرة، أفضت إلى حالة من الانقسام والشرذمة، التي باتت تنذر بتفكك المشروع الوطني بعد أن أصابه العطب في مقتل بعد فشل وانهيار مسار أوسلو. فإذا كان الانفراد بممارسة الطابع المسلح للمقاومة دون قرار وطني موحد يأخذ في الاعتبار طبيعة المرحلة والواقعين الدولي والإقليمي، قد ألحق أضراراً تفوق قدرة شعبنا على تحمل تبعاته، فإن الإصرار على الانفراد بالمصير الوطني، وإدارة الظهر للحاجة الوجودية لمراجعة هذا المسار وتحصين البيت الداخلي، قد أضر وما زال يلحق بأفدح الأضرار بهذا المصير،بل، وفتح المزيد من شهية العدو على المضي بمشاريع التوسع الاستيطاني والضم، وتفعيل مخططات التصفية الشاملة لحقوق شعبنا الوطنية .
بانفجار السابع من أكتوبر الذي اعتبرته معظم مؤسسات وشعوب العالم، بمن فيها الأمين العام للأمم المتحدة أنه ليس معزولاً عن عقود طويلة من المجازر والقهر والتنكر لمجرد وجود الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948، كان أيضاً من الطبيعي أن تتباين الآراء حول مدى جدوى هذا الانفجار، سيما لجهة ما ترتب عليه من جرائم إبادة اسرائيلية مستمرة حتى اليوم. ولكن من غير الطبيعي أن يصل هذا التباين إلى درجة تحميل الضحية مسؤولية هذه الجرائم، أو أن تخرج علينا بعض الأصوات التي تدعو فعلياً للاستسلام كون ذلك الوسيلة الوحيدة لوقف الحرب، لإعفاء مثل هذه الأصوات ومن يمثلها من مسؤولية التقصير ازاء دورها في حشد جدي للجهد العربي والدولي لإلزام حكومة الاحتلال بوقف حربها، وما يستدعيه ذلك من معالجة وطنية جادة لأسباب الوهن الذاتي الذي تستثمره اسرائيل للمضي بمخططاتها. على العكس من ذلك، وبذريعة المتغيرات الإقليمية، الناجمة أساساً عن هشاشة الوضع العربي ذاته، سيما طغيان الفردية في أنظمة الحكم، اندفع الاتجاه المهيمن على القرار الوطني نحو مزيد من الانفراد في معالجة ما نشأ عن حالة الفشل. والسؤال الذي يطرح نفسه هو :إذا كانت بعض "المظاهر الاستعراضية المسلحة" يمكن أن تشكل خطراً على السلم الأهلى، أفليس اللجوء للقوة المسلحة كوسيلة وحيدة لمعالجتها ، قد يشكل انزلاقاً لما هو أخطر بما لا يقاس معها؟!
لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أو الاجتهاد أن استمرار إدارة الظهر لارادة الإجماع الشعبي والوطني بترتيب البيت الداخلي، وسد الثغرات التي تعاني منها الحالة الفلسطينية،هو الذي شجع وما زال يشجع حكومة الاحتلال على المضي بحرب الإبادة، وبمخططات الضم.فالمضي بقاعدة " عنزة ولو طارت"، والإحجام عن مجرد الاستماع لمبادرات الشخصيات العامة والمؤسسات الأهلية والمجتمع المحلي، بما فيها مخيم جنين، و رأي الأغلبية الساحقة الحريصة على قدسية الدم الفلسطيني، والاستمرار بسياسة ركوب الرأس لمجرد إثبات القدرة، ليست سوى طريق الهاوية التي تعمل حكومة نتانياهو على توريطنا فيها، ودفع شعبنا وقضيته للانتحار في براثنها. فرض الأمن والسلم الأهلى والعدالة الاجتماعية ضرورة وطنية لتعزيز قدرة شعبنا على الصمود، ولكنها معادلة متكاملة لا يمكن ترسيخها دون شعور الناس بالعدالة والثقة بالمستقبل، وما يستدعيه ذلك من التوافق على رؤية وأدوات ومؤسسات وطنية جامعة، تتطلب التنفيذ الفوري لما ورد في إعلان بكين. فالوحدة هي الوسيلة الوحيدة لرفع الغطاء عن كل من يعبث بالسلم الأهلي أو ينفرد بالمصير الوطني على حد سواء .