الأرجح أن لا يعتقد البعض، كما نعتقد نحن، بدروس التاريخ وحتمية انتصار شعوب المقاوِمة، إذ يميلون لاعتبار هذا من باب (الشعاراتية) وانعدام (العقلانية والروح النقدية)، وهي مصطلحات تميز اليوم الخطاب النقدي، وأحياناً المعادي، للمقاومة ومعركة الطوفان، لا بل خطاب بلغ من الإسفاف، حدّ تحميل المقاومة وزر عشرات الآلاف من القتلى والجرحى بسبب جرائم دولة الإبادة، والمآل النهائي لهكذا خطاب، حتى لو لم يقل، هو الاستسلام لا غير.
يقيناً إن المعسكر الإمبريالي/ الصهيوني/ الرجعي العربي الرسمي قد حقق انتصاراً في هذه المرحلة. إنكار ذلك لن يفيد معسكر المقاومة في شيء، بل سيشيع أوهاماً لدى جمهوره هو في غنى عنها. اتفاق في لبنان أعطى الصهاينة حق أن يسرحوا ويمرحوا في الجنوب، تحت بند حق الدفاع عن النفس، فيما يحاصرون الجنوب اللبناني من جنوبه وشرقه عبر توسعهم، بما يشبه خنق المقاومة اللبنانية وحزب الله، والسعي لترتيب البيت اللبناني وفق رؤيتهم للهيمنة.
وفي سوريا كان من (ثمار) الثورة ضد الاستبداد، أن تدمّرت قدرات الجيش العربي السوري تماماً، واستباح الصهاينة الجنوب السوري ساعين لتحقيق تواصل درزي بما يشبه حكما ذاتيا مستقلا عن المركز، فيما العثملي أردوغان يبرطع في الشمال، والكردي مدعوم من الأمريكي والصهيوني، يبغي انفصالاً أو في الحد الأدنى فدرالية. أما الحكام الجدد فرسائلهم للصهاينة، ورغم كل ما فعلوه ويفعلونه حتى اللحظة من التوسع 500 كيلومتر مربع، تبعث في نفوس الصهاينة الاطمئنان. لا يمكن رؤية إلا تقسيم سوريا الوطن حتى اللحظة، فيما يستمر الحكام الجدد بالخلط بين النظام، الذي لا يأسف عليه أحد، وبين الدولة والوطن الذي يعبثون به.
والمؤشرات المنطقية نعتقدها تزكّي المضي قدماً في العنجهية والتوسعية الصهيونية والأمريكية والتركية. ماذا سيمنع الصهاينة من سحب توقيعهم على اتفاق لبنان، وقد سحبوا توقيعهم على هدنة العام 1974 مع سوريا، والمطالبة بمنطقة عازلة يرسخ احتلالهم، يتحكمون هم بها، والعمل مجدداً على ضرب حزب الله بغية تصفيته عسكريا تماماً، ولاحقا سياسياً، عبر وكلاء لهم من اللبنانيين المتصهينين من حزب القوات والكتائب وفريق أشرف الريفي؟ ماذا سيمنع الصهاينة والإمبرياليين الأمريكان والبريطانيين من شن حرب مدمرة على اليمن، لتدمير قدرات الجيش وأنصار الله مثلما حصل بالضبط في سوريا، خاصة وأنهم سيجدون عوناً من أنظمة عربية متصهينة، يقف اليمن شوكة في حلوقهم منذ سنين، لا يستطيعون اقتلاعها؟ ماذا سيمنع الصهاينة، وبدعم الإمبرياليين الأمريكان والبريطانيين أيضاً، وكل حلف الناتو، من توجيه ضربة مدمرة لإيران، ولبرنامجها النووي وقدراتها الصاروخية والجوية وصناعاتها، إذا ضمنوا أن إيران تفتقد القدرة على رد مدمر، كنتاج للضربة الأخيرة لها؟ ماذا يمنع تركيا من إقامة منطقة عازلة في الشمال، عبر احتلال دائم، بحجة إقامة حاجز في وجه مجموعات قسد، خاصة أن (الحكام الجدد) قدّموا سوريا، على الأقل شمالها، لأردوغان راعيهم وممولهم وموجههم، كمحمية له، على طبق من ذهب؟.
كل هذا يعني أن الهيمنة الأمريكية/ الإسرائيلية/ التركية دخلت طوراً جديداً في المنطقة، ينبغي رؤيتها على حقيقتها للتعامل معها، للتصدي لها بفعالية وثقة، ولهزيمتها تاريخياً.
هذا ليس قدراً لا فكاك منه
ومع ذلك فالرهان على دروس التاريخ مهم جداً ومنطقي جداً. لقد سبق ودمّر الجيش الأمريكي العراق وجيشه، وقام الجنرال الأمريكي بتعيين حكومة جديدة!!! كانت المهانة وصلت حدودها القصوى، متناغمة، ويا للعجب، مع الفرح في الشوارع لسقوط صدام. تماماً مثلما يتناغم الفرح اليوم بسقوط الأسد مع التوسع الصهيوني في جنوب سوريا، والاحتلالين التركي والأمريكي للشمال والشرق. ومع ذلك سريعاً انطلقت المقاومة في العراق ضد الاحتلال الأمريكي، ولا زالت، بحدود معينة، رغم موقف السلطة المهادن والمتواطئ مع الاحتلال الأمريكي، ونموذج الفلوجة راسخا في التاريخ العراقي. أكثر من ذلك، المعسكر المعادي الذي راهن على عراق مطبّع على النمط الخليجي، خارج معسكر الرفض لذلك المعسكر، نمت فيه تشكيلات المقاومة، وساهمت في إسناد ما لشعبنا في معركة الطوفان، فالعراق ما زال ينبض بالمقاومة رغم كل شيء.
ماذا سيمنع تكرار الظاهرة في سوريا والشعب السوري يرى العربدة الصهيونية في الجنوب، والتركية والأمريكية في الشمال والشرق، ويسمع حكامه يوجّهون رسائل الاطمئنان لدولة الإبادة؟ هل بدأت درعا المشوار بحراك شعبي رافض للتوسع الصهيوني؟ هذا الرهان. إن التربية القومية للشعب السوري عبر التاريخ، قد جعلت من قضية فلسطين، ومنذ عز الدين القسّام، هي قضية السوريين. ذلك درس تاريخي، وليس مجرد شعارات لا موقع لها من المصداقية. هل سيظل الشعب السوري راضياً بتلك العربدة، خاصة أن عدم تحرك النظام تاريخياً للقتال لتحرير الجولان منذ العام 74، كانت من المآخذ الجدية للمعارضة، على النظام العاجز، فهل سيقبل السوريون من الحكام الجدد استمرار العمل، لا بسياسة العجز فحسب، بل وبالقبول ضمنياً بالتوسع والعدوان، وتالياً عدم إطلاق رصاصة واحدة ضد هذا التوسع؟ على الأقل دروس التاريخ تنفي ذلك.
ربما يسارع البعض للاستشهاد بمآل ( ثورات الربيع العربي) التي أجهضها الإسلام السياسي التخريبي، ليستنتج، متوتراً وغاضباً، أن لا أمل في الشعوب العربية. لا يصلح التوتر واستدخال الهزيمة مدخلا نظرياً للتحليل، بل هو مدخل فقط لإطلاق الأحكام النزقة الصبيانية اليأسية الانهزامية، لا أكثر. لا يمكن القبول بالاستعمار والاحتلالات، والامتهان والدوس على الكرامة طويلاً. التاريخ لم يسجل أن شعباً خضع للاستعمار وقبل به صاغراً، بل إن سجل المقاومة حافل بالتحرير وانتزاع الاستقلال، حتى لو كان استقلالاً شكلياً، خرج الاستعمار من الباب ليدخل من الشباك، أما بقاء المستعمر والاحتلالات العسكرية المباشرة، الأمريكية والصهيونية والتركية، تستبيح سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، فذلك يعاكس مسار التاريخ، وشعوبنا ليست بخارج عن سياق التاريخ.
وأن تسارع الطبقات والنخب العربية والفلسطينية الرسمية، وانطلاقاً من (هزيمة) مفترضة المقاومة، ليقدموا فروض الطاعة للمستعمِرين، و(عروض) القدرة على (ضبط) الحالة الثورية، فليعيدوا ترتيبات حساباتهم. ما يعرضه المستعمِر، بفعل انتصاره الحالي، ليس أكثر من استسلام مشين، عبر أدوات يوفر لها ظروف العمل كأدوات متعاونة معه لا أكثر. فالمعروض استسلام مشين لا حلول. والاستسلام يعني السحق النهائي. هذا ما يعرضه المستعمِر على اللبنانيين والفلسطينيين، وهذا ما تسرّب، رغم عدم تأكد مصدره، من لقاء الوفد الأمريكي مع رجلهم الجديد الجولاني، المتحول من إرهابي تكفيري (جاء الكفّار بالذبح)، لسياسي ببدلة وربطة عنق، فيما يتعلق بطبيعة الحكم الذي يتطلع له الأمريكان في سوريا.
الحالة الفلسطينية واللبنانية نموذجا لدرس تاريخي. في لبنان اجتاح الصهاينة لبنان عام 82 وفرضوا اتفاق 17 أيار، ومع ذلك اندحروا مهزومين وسقط معهم 17 أيار، ودميتهم التي جاءوا بها على رأس دبابة، رئيساً، بشير الجميل، أسقطته المقاومة بالتصفية. المقاومة في العام 2024 كانت أقوى رغم كل الضربات الموجعة، وحزب الله، وحسب كل التقديرات، ما زال قادراً على التصدي للعربدة في لحظة ما.
أما في فلسطين فالضربة الموجعة للمقاومة المسلحة في انتفاضة 82 حصدت مئات المقاومين شهداء وجرحى ومعتقلين، وقبلها الهزيمة العسكرية للمقاومة في لبنان وخروجها من هناك، فظهرت من جديد في السنين الأخيرة بزخم أكبر، وتقنيات قتالية جديدة. وهل ننسى الطوفان؟ حصار خانق لسبعة عشر عاماً، فماذا حصد المستعمِر غير مقاومة باسلة، جريئة وذكية، وتمتلك تقنيات مذهلة لإيذاء دولة الإبادة؟.
عنجهية الصهاينة دفعتهم لإطلاق أمنياتهم الفاشية العنصرية المَرَضيّة عندما تساءلوا على لسان زعيمتهم غولدا مائير: أين هو الشعب الفلسطيني؟ أو عندما أعلنوا أحلامهم: الكبار يموتون والصغار ينسون. أعلنوا ذلك منذ 76 عاماً، ومع ذلك يطوي شعبنا مرحلة مقاومة، لتنطلق مقاومة متجددة ومستجدة، فأن نخسر معركة لا يعني أننا لن نكسب الحرب في المستقبل.
كل ذلك يؤكد أن الشعوب قادرة وتستطيع استعادة زمام المبادرة والبدء في مقاومة مستجدة ومتجددة بالاستفادة من كل معاركها السابقة. أما إن شعوباً تقاتل فلا يمكن أن تهزم، فذلك درس آخر. مَنْ يستسلم ينسحق في التاريخ ويخرج منه تماماً، وبالعكس، مَنْ يقاتل يصنع تاريخه، ذلك درس التاريخ، وشعبنا والشعوب العربية ليسوا بشواذ عن هذا الدرس. أما ما يحرك المقاومة أصلاً فهو عدالة قضيتنا الوطنية، مع كل التضامن الدولي معها، والقضايا العربية، لذلك فلا حل لتلك القضية، وإنجاز التحرر العربي، سوى بالقضاء على الاستعمار حتى لو كسب جولة أو معركة في اللحظة الحالية، فالصراع لم ينتهِ بعد الحرب سجال كما يقال.