منذ بداية الحرب الإبادة على قطاع غزة، يسيطر مشهد المفاوضات المتعثرة على الساحة السياسية بين إسرائيل وحركة حماس. وعلى الرغم من المؤشرات المتكررة التي توحي بقرب الوصول إلى اتفاق، إلا أن إسرائيل تستمر في وضع عوائق تحول دون إنهاء هذا الملف. هذا الوضع يدعو إلى تحليل معمق لفهم الأهداف الحقيقية لإسرائيل من هذه المماطلة، وكذلك تأثيرها على الأطراف المعنية وعلى مستقبل الصراع.
الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل
منذ بداية الحرب، أعلنت إسرائيل مجموعة من الأهداف تشمل إعادة الأسرى لدى المقاومة، القضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وإسقاط حكم حماس بشكل كامل. ومع ذلك، أظهرت التطورات الميدانية والتكتيكية أن إسرائيل فشلت في تحقيق هذه الأهداف المعلنة، حيث استمرت المقاومة في الصمود وأثبتت قدرتها على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، مما أدى إلى إطالة أمد الحرب. على الرغم من ذلك تستغل إسرائيل الحرب الحالية لتحقيق أهداف استراتيجية على عدة مستويات:
تعزيز السيطرة الداخلية: تسعى الحكومة الإسرائيلية، بقيادة اليمين المتطرف، إلى ترسيخ سلطتها عبر تمرير قوانين تعزز من قبضتها على مفاصل الدولة. يتم ذلك من خلال استغلال الحرب لصرف الانتباه عن الأزمات الداخلية مثل التضخم الاقتصادي والصراعات الاجتماعية. كما أن التحشيد القومي والأمني يوفر للحكومة غطاءً سياسيًا لتمرير قرارات مثيرة للجدل.
فرض نظام رقابة صارم على فلسطينيي الداخل: تركز إسرائيل على تقويض أي مقاومة شعبية داخل أراضي 1948 من خلال سياسات رقابة وعنف ممنهج تستهدف التعليم، الاقتصاد، والبنية الاجتماعية، مع محاولة دمج فلسطينيي الداخل في منظومة سياسية واقتصادية تخدم الاحتلال. يتم ذلك من خلال سن قوانين تقلص الحقوق المدنية وتفرض قيودًا على حرية التعبير والتنقل، مما يحد من إمكانية تنامي المقاومة السياسية داخل المجتمع الفلسطيني.
توسيع المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية: يتسارع توسع المستوطنات بشكل غير مسبوق، بما في ذلك الاستيلاء على مناطق "ج" وأجزاء من "ب". تهدف هذه الخطوات إلى فرض أمر واقع جديد يجعل أي حديث عن حل الدولتين أمرًا شبه مستحيل. المشروع الاستيطاني لا يقتصر فقط على البناء المادي، بل يشمل أيضًا سياسات قمعية تطال السكان الفلسطينيين عبر هدم المنازل، مصادرة الأراضي، وفرض قيود على الحركة والتنقل.
إعادة تشكيل قطاع غزة: تعمل إسرائيل على تغيير التركيبة الاقتصادية والاجتماعية في غزة، وذلك عبر فرض حصار خانق وسياسات تهدف إلى إضعاف المقاومة وتغيير السلوك الاجتماعي للسكان. يشمل ذلك تقليص الخيارات المعيشية للسكان وإجبارهم على التكيف مع واقع جديد يخدم الاستراتيجية الإسرائيلية. كما تستخدم إسرائيل سياسة العقوبات الجماعية لفرض الضغوط على السكان المدنيين ودفعهم نحو تقبل تسويات تنهي حالة المقاومة.
السيطرة على أراض جديدة: وسّعت إسرائيل نطاق أهدافها الاستراتيجية لتشمل تعزيز نفوذها في دول الطوق مثل سوريا ولبنان، مستهدفة تفكيك محور المقاومة بشكل أوسع. كذلك، تسعى إسرائيل من خلال ذلك إلى إضعاف القوى الإقليمية الداعمة للمقاومة، وتقويض قدراتها العسكرية والسياسية لضمان هيمنة إقليمية طويلة الأمد.
تأثير الحرب على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة
على مستوى الضفة الغربية، تُستخدم الحرب كغطاء لتكثيف الأنشطة الاستيطانية وتهجير السكان الفلسطينيين من مناطق استراتيجية. هذه السياسات تهدف إلى تغيير الخريطة الديموغرافية بما يخدم المشروع الصهيوني طويل الأمد. تمارس قوات الاحتلال إجراءات تعسفية تشمل الاعتقالات الجماعية، استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، وتضييق الخناق على النشاطات الاقتصادية. في قطاع غزة، يواجه السكان أزمة إنسانية متفاقمة نتيجة الحصار المستمر، والذي يمنع إدخال المواد الأساسية ويحد من فرص التنمية الاقتصادية. كما تساهم الهجمات العسكرية المتكررة في زيادة الأعباء النفسية والاجتماعية، ما يخلق بيئة من الإحباط واليأس. تصاعد البطالة وانهيار البنية التحتية هما جزء من أدوات الضغط الإسرائيلي التي تهدف إلى دفع السكان نحو هجر القطاع أو الرضوخ للسياسات الإسرائيلية.
مفهوم الصفقة من وجهتي النظر
الرؤية الإسرائيلية
تسعى إسرائيل إلى صفقة تبادل محدودة تضمن الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين مقابل تنازلات إنسانية محدودة للفلسطينيين، مثل إدخال مساعدات أو فتح بعض المعابر بشكل جزئي. الهدف الأساسي هو الحفاظ على السيطرة الأمنية والعسكرية على القطاع، مع إضعاف حماس وبقية الفصائل المقاومة. تسعى إسرائيل أيضًا من خلال هذه الصفقات إلى تعزيز صورتها كدولة قوية قادرة على تحقيق مكاسب عسكرية وسياسية دون تقديم تنازلات جوهرية. تعتبر هذه الصفقات فرصة لتوظيف الدعاية الإعلامية داخليًا وخارجيًا لإظهار "التفوق الإسرائيلي".
الرؤية الفلسطينية
تطمح حماس والفصائل الفلسطينية إلى صفقة شاملة تضمن إنهاء الحرب ورفع الحصار بالكامل. تشمل هذه الرؤية انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وفتح المجال أمام إعادة الإعمار والتنمية. تهدف هذه الصفقة إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان وتعزيز قدرة الفلسطينيين على مقاومة الاحتلال بطرق مختلفة. كما تسعى حماس إلى استثمار الصفقة لتعزيز شرعيتها السياسية داخليًا وإظهار نفسها كمدافع حقيقي عن الحقوق الفلسطينية، مما يساهم في تعزيز مكانتها بين صفوف الشعب الفلسطيني.
النقطة المحورية: إدارة غزة بعد الحرب
تشكل مسألة إدارة قطاع غزة العقبة الأساسية في أي مفاوضات. تسعى إسرائيل، بدعم أمريكي، إلى إضعاف حماس وإيجاد سلطة بديلة تتولى إدارة القطاع بطريقة تخدم المصالح الإسرائيلية. يُفترض أن تكون هذه السلطة مسؤولة عن الجوانب الخدمية والإدارية فقط، بينما تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية. من ناحية أخرى، تصر حماس على الاحتفاظ بدورها كممثل للمقاومة، وترفض أي ترتيبات تقوض سيادتها على القطاع. هذه الحرب تعكس الفجوة الكبيرة بين الطموحات الفلسطينية والرؤية الإسرائيلية لمرحلة ما بعد الحرب. بالإضافة إلى ذلك، تطرح بعض الجهات الدولية سيناريوهات لإدارة غزة من خلال قوات دولية أو عبر السلطة الفلسطينية، لكن هذه المقترحات تواجه عقبات سياسية ورفضًا من الأطراف الرئيسية.
الظروف السياسية في إسرائيل
تعيش إسرائيل في ظل ظروف سياسية مواتية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فبالرغم من التحديات الداخلية، مثل الاحتجاجات ضد سياسات حكومته الاقتصادية والاجتماعية، فإن المعارضة الإسرائيلية تبدو ضعيفة وغير قادرة على تقديم بديل قوي. على الصعيد الدولي، تحظى إسرائيل بدعم كبير من الولايات المتحدة، ما يمنحها مساحة أكبر للمناورة في المفاوضات دون وجود أدنى ضغط من إدارة ترامب الجديدة. يُترجم هذا الدعم إلى مساعدات عسكرية وتقنيات متطورة تُستخدم لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأرض. كما تستفيد إسرائيل من الانقسامات في العالم العربي، مما يقلل من الضغط الإقليمي عليها ويتيح لها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة سياسية ممكنة.
ختامًا، من الواضح أن ملف الأسرى بالنسبة لإسرائيل ليس على رأس الأولويات، وأن المهم بالنسبة لها هو إيجاد جهة لإدارة قطاع غزة بعيدًا عن حماس. يمثل ذلك نقطة البداية لإنهاء هذه الحرب. لكن على الطرف المقابل من الضروري أن تنتج هذه الحرب توافقًا فلسطينيًا داخليًا وإيجاد خطاب وطني جامع يتجاوز الانقسامات الحالية. لا يمكن إنقاذ ما تبقى من القضية الفلسطينية إلا من خلال الوحدة الوطنية ورؤية مشتركة تسعى لتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال.