الخميس  02 كانون الثاني 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الاستبعاد السياسي وممارسة الشر على الذات

2024-12-30 04:37:25 PM
 الاستبعاد السياسي وممارسة الشر على الذات
رئيسة التحرير رولا سرحان

ليست المقالة عن الشر هنا كتابة لاهوتية، ولا مقالة أنثروبولوجية في الشعوذة أو في تأثيرات معتقدات ما وراء الطبيعة على سلوك الإنسان، بل هي مقالة في العمى السياسي من جهة، وعن الاستبصار أو التجلي، من جهة أخرى، والذي بات يتحلى به المشاهد أو المراقب للأحداث بحيث لم يعد بعيدا أبدا عن إحساسه بالشر، أو حتى رؤيته عيانا. ويتحقق ذلك إذا ما قيست الأمور بين ما يحدث في قطاع غزة من إبادة تختصر حكاية فلسطين، فيما يوصف بالشر المطلق، كما حدده المفكر المغربي طه عبد الرحمن، وما بين الضفة الغربية التي تعاني وضعا مركبا تعقيداته تختصرها جنين، وما بين سوريا التي تختصر حكاية الوطن العربي، فيما يمكن وصفه بممارسة الشر على الذات فيما ينسحب أيضا كمفهمة على الفلسطيني. فعندما يكون الاستبعاد السياسي ما هو إلا النتيجة المسبقة لاستفحال الشر بصيغة ممارسته على الذات، لا يمكن إلا الشعور به لصيقا فوق الأجساد والأرواح المضحى بها وتلك المتوقع أن تتم التضحية بها.

ولا تتم ممارسة الشر على الذات إلا في حالة من الهوس في الحفاظ على البقاء فتستنفذ كل الطاقات البشرية والمادية في اتجاهاتها الخاطئة، من خلال التفريق ما بين متلازمين متممين لبعضهما، بأن يُفرق بين الإنسان وإمكاناته، أو بين المواطن وحقوقه. عندها، سيلتصق الفرد في خانة المستبعد سياسيا، أو ممحوا، محاولا النجاة من هذا الاستبعاد والمحو، سواء أكان ذلك من خلال بعث نفسه من جديد من خلال الالتصاق بقوى الشر المسيطرة، أو من خلال الاستسلام لحالة التهميش حتى يفقد الشر قوته، أو الصمود في وجهه قدر ما استلزم الأمر أو قدر ما هو مستطاع.

أما في التنظير للشر وتوصيفاته، فقد تراوحت فلسفيا ما بين "الشر البديهي- الجذري" عند كانط، و "تفاهة الشر" عند أرندت، و"الشر السائل" عند زيجمونت باومن، و"الشر المطلق" عند الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن؛ فراديكالية الشر عند كانط مبعثها الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى تفضيل الذات بديها على الآخر ما يدفعها لارتكاب الشر؛ أما عند أرندت فهو تافه لأنه لا يُعمل التفكير في السلوك ويعيش مرتكب الشر حياة عادية طبيعية دون وازع أخلاقي؛ أما عند باومان، فالشر السائل مُــنبث في تفاصيل الحياة اليومية راسخ فيها بحيث يصعب تمييزه أو معارضته فيصبح البديل منعدما لأن الراسخ من الشر هو طوق النجاة من البديل غير مضمون النتائج؛ أما عند عبد الرحمن، فالشر المطلق ما هو إلا "قتل القيم أو محوها بما يُفقد الإنسان القدرة على تمييز الخير من الشر والحق من الباطل". أما المشترك بين هذه التعينات الفلسفية في توصيف الشر فهو التصاق الشر في مختلف المقاربات بممارسته على الذات، فيما يشبه الانتحار المؤجل، ووفق مقولة "رُدَّ كيده في نحره"، أي عندما تستنفذ السلطة السياسية إمكانياتها في اتجاه الحفاظ على بقائها، نازعة عنها درعها الحامي لشرعيتها، باستبعاد المواطنين سياسيا عنها وعن عملية صناعة القرار، وتُسقط عنهم تفعيل مواطنتهم، التي أصبحت، في عصرنا هذا، لصيقة بتعريف إنسانيتهم، فتسقط الدول والأنظمة السياسية كنتيجة لهذا الاستبعاد.

ويمكن استعراض ممارسة الشر على الذات في مشهدين متزامنين: المشهد الأول، من سوريا، حيث ستصطف عناصر سابقة من قوات أمن نظام الأسد البائد في طوابير طويلة لتسليم أسلحتهم للحكومة الانتقالية من أجل استلام بطاقة مؤقتة تتيح لهم التنقل في البلد. وستذيع وسائل الإعلام بعض اللقطات واللقاءات المصورة مع بعضهم فيما تبدو حالة الارتباك المفهومة على وجوههم واضحة، بينما لا تتجاوز تعليقاتهم التأكيد على أن دورهم، خلال الحقبة البائدة، لم يكن سوى دور وظيفي بيروقراطي، أي أداء المهمة مقابل الأجر، بينما يريدون تأمين مصاريف حياتهم المعيشية، في حالة لا توصف إلا بأنها "عادية" كما وصفتها الفيلسوفة اليهودية حنا آرندت، عندما أدركت أثناء تغطيتها، في القدس، لأحداث محاكمة أدولوف أيخمان، الضابط النازي المسؤول عن تنظيم نقل اليهود خلال الحرب العالمية الثانية إلى معسكرات الإبادة، أن الشر قد يكون تافها. والمعنى في التفاهة هنا، أن الفرد قد لا يكون مسؤولا عن الشر الصادر عنه، وأن الفرد قد لا يكون "منحرفا" أو "ساديا"، ولكنه "عادي بشكل مرعب"، بحيث أن ما قام به لم يكن سوى بدافع العيش أو الاجتهاد بغية تعزيز مساره المهني في البيروقراطية المنضوي تحتها. وذلك جزء من محاولة البقاء، عندما يُرتكب الشر كممارسة اعتيادية بغية اتقاء مصدره بتصديره وممارسته على الآخرين كجزء من الاستمرارية داخل بيروقراطية الشر، حتى لا يكون مستبعدا. غير أنه في المحصلة النهائية المنطقية، فإن هذه البيروقراطية إنما تمارس الشر على ذاتها ومن تسيطر عليهم.

أما المشهد الثاني، فهو من مستويين، الأول ينطق من غزة التي تحكي حكاية فلسطين، التي تعيش زمنها النكبوي منذ عام 1948، ويستشرش هذا الزمن في حركته على شكل إبادة متكاملة الأركان الجنائية والقانونية وقبلهما الإنسانية، وذلك في ممارسة للشر المطلق المتعين مباشرة بالقتل الجماعي العمد للأبرياء. أما المستوى الثاني، فينطق من جنين، حيث يمارس الفلسطيني الشر على نفسه، دون أن يدرك كيف أنه ينحو باتجاه تطبيع الشر على ذاته، فلا يكون شره شرا مدانا أو منبوذا، بل قابلا للمفهمة على أنه شر منطقي منضبط وبهدف الانضباط.

وليس التشابه بين فلسطين وسوريا، في ممارسة الشر على الذات، إلا تشابها في السياق العام الذي يسيطر على التشكيلات السياسية في العالم العربي، التي تجعل من الموظف المدني والعسكري موظفا بيروقراطيا أقرب إلى آلة الكاتب التشيكي اليهودي فرانز كافكا في قصته مستعمرة العقاب. ففي هذه القصة، سيخترع قائد المستعمرة آلة مخيفة لتعذيب المعارضين مؤلفة من ثلاثة أجزاء: الجزء الأسفل، والذي هو عبارة عن سرير يتمدد عليه "المذنب" مربوطا بأربطة لا فكاك له منها؛ والجزء العلوي الذي تتألف منه بكرات مسننة لتشغيل الآلة، والجزء الأوسط، والذي هو عبارة عن مسحاة تنزل منها مجموعة من الإبر الزجاجية المطابقة لجسد الضحية، ومهمتها نقش القانون الذي جرى مخالفته على جلد المحكوم، ولا تنتهي عملية النقش إلا بتمزيق جسد "المذنب"، ومن ثم رميه في حفرة.

 

في عالمنا العربي، أينما فتح الناظر عينيه فإنه لن يرى إلا تلك الحالة التي باتت السمة العامة لمجتمعاتنا في ممارسة الشر على الذات، والتي كانت استحقاقا منطقيا للاستبعاد السياسي الذي جعل من المواطن يشبه آلة كافكا، يعاقب نفسه من خلال نفسه، ولا ينفك الأمر كذلك مستمرا دون هوادة، لا نجاة منه إلا بعد أن يدرك التشكيل السياسي الناظم للحياة السياسية العربية، أن النفس، دائما، أمارةٌ بالسوء!