السبت  04 كانون الثاني 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

دون كيشوت وآلام فراق النزام| بقلم: ناجح شاهين

2025-01-01 11:25:36 AM
دون كيشوت وآلام فراق النزام| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

دون كيشوت "زي حلاتي ما بتحمل كفين"، ولا يستطيع تصور الجوع والاعتقال والمعاناة، ولكنه على الرغم من ذلك عاش بطلاً على امتداد ثلاثة عشر عاماً من الكفاح ضد حكم الطاغية العلوي النصيري الكافر. فجأة يجد نفسه بدون مشروعه النضالي الذي انتهى على حين غرة، ليترك في داخله فجوة هائلة لا يمكن سدها.

دون كيشوت العربي بعامة والفلسطيني بخاصة، يتألم لفقد "النزام" أكثر من المقاومة اللبنانية التي تعد بداهة أكبر الخاسرين. لقد عاش الرجل سنوات جميلة يقاتل فيها طواحين الهواء التي تحجب الديمقراطية والحرية عن سوريا والعرب والعالم أجمع، بل إن تحرير فلسطين بالذات،ناهيك عن الجولان، كان على مرمى حجر لولا أعمال النزام الجبانة والإجرامية والخيانية التي يعجز اللسان عن ذكرها وتتعب الحافظة من حفظها. نزام الأسد هو الشر الذي لا يجوز أن يذهب، لأن معنى الحياة عند عدد كبير من أنصار الحرية، وأنصار الخلافة على السواء، يتوقف على مهاجمة ذلك النزام ومن يرعاه ومن يؤيده ومن يقول إنه نظام عادي مثل بقية الأنظمة العربية والعالمثالثية على السواء. معنى الوجود بالنسبة للمناضل دون كيشوت ضد طواحين النزام السوري هو بطولاته الفيسبوكية والعنكبوتية عموما في مواجهة النزام الذي ما كان يجب أن يغيب لأن ما كان يفعله كيشوت هو مقاتلة طواحين هذا النزام. فماذا سيفعل بعد ذلك؟

في كل صباح كان البطل دون كيشوت يتفقد مواقع الثورة الإلكترونية في الدوحة وأبوظبي ونيويورك ولندن وباريس وأنقرة وتل أبيب، يجمع ما تيسر من فضائح النزام لينشرها على الفيس ويتحاور مع الأصدقاء حول عالم الشر والظلام الذي يحجب عالم الخير والنور المقبل لا محالة بسواعد الثوار طلاب الحرية والدين الصحيح والديمقراطية.

ذهبت سكرة الفرح بسقوط النزام وجاءت صحوة البحث عن منشورات جديدة يتسلى بها دون كيشوت ويتابع حروبه التحررية العظيمة. لكنه بالطبع لا يميل إلى فتح ملف إسرائيل الفلسطيني أو السوري أو اللبناني، كما أنه لا يريد أن يمس بالجار التركي لأنه في واقع الحال مرشد الثورة وممولها وراعيها الأساس، لا بد من سد الفجوة النفسية الهائلة التي انفتحت عن آخرها في غمضة عين.

ولأن الطبيعة لا تعترف بالفراغ، فقد قامت الجزيرة زعيمة الكيشوتيين العرب بتعويضهم فوراً بمسلسل لن ينتهي قبل مرور فترة الفطام والشفاء على نحو كامل. فبعد أن فرح دون كيشوت بسقوط الطاغية الكافر الجبان عدو الديمقراطية، وانكسر أعوانه الشياطين من قبيل إيران الرافضة، وحزب اللات وروسيا التي باءت بغضب دون كيشوت دون أن تكون من الرافضة أو العلويين أو أي فريق يمت للعرب والمسلمين بصلة، بعد ذلك الفرح تشكل فراغ فوري كان لا بد من تعبئته بفتح ملف السجون والمذابح والمقابر الجماعية ...الخ، وهو ملف لا يمكن إغلاقه بسهولة، لأن سوريا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، مثلما كان العراق بعد الاحتلال أو التحرير الأمريكي، أو ليبيا بعد اغتصاب القذافي حتى الموت. يسعد الجمهور، أي جمهور، بمشاهد العنف أو سماع أخباره، ولكن تلك الشهوات لا يمكن إشباعها مرة واحدة، وهي مثل الإدمان تحتاج جرعات متنامية مرة تلو الأخرى. هكذا لا بد من فتح ملف طويل من جرائم صدام أو القذافي أو الأسد ...الخ، حتى نسلي الجمهور بعامة ريثما تتحقق عملية "البناء" الجديدة التي ستحيل سوريا إلى مناطق نفوذ مثلما هو الحال في العراق وسوريا وغيرها. في هذه الأثناء بينما يتم ترتيب "البيت" السوري الذي سيحتاج أربع سنوات بحسب الجولاني لإجراء الانتخابات "الحرة" التي حلم بها دون كيشوت في رام الله وعمان والقاهرة ودمشق ذاتها، لا بد من تغذية أوهام كيشوت البطولية بأفلام واقعية أو متخيلة عن مجازر النزام وجرائمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى. بل إن التركي يخرج علينا بأخبار مفاجئة لا نعرف سبب تأخرها عن اتصالات قام بها النزام مع إسرائيل لكي يستسلم منذ خمس سنوات. يختفي الخبر من تلقاء ذاته بعد أيام قليلة، لكنه يقوم كما ينبغي له بتسلية دون كيشوت ريثما يتم فتح المقابر في الشمال بعد أن انتهت تقريباً زوبعة صيدنايا التي أقامت الدنيا أسابيع طويلة.

لا يجوز أبداً أن يتوقف الناس لحظة ويسألوا: حسناً لقد سقط النظام الذي حرمنا الحرية ونعمة الإسلام وتآمر مع أمريكا وإسرائيل وحزب اللات وإيران وروسيا، مهما يكن هذا الكلام عبثياً؛ لقد سقط النظام إلى الأبد، ما الذي يحدث الآن؟ وماذا يجب أن نفعل في الواقع الجديد؟ من هم أعداؤنا الجدد بعد أن ذهبت طواحين الهواء البعثية؟ هل نقول إن إسرائيل عدو لنا؟ أو الولايات المتحدة؟ أو تركيا الأطلسية بأحلامها العصملية؟

لا يجوز للناس أن يسألوا هذه الأسئلة. أصلاً دون كيشوت لم يحب هذه الأسئلة في أي يوم لأنه يعرف أنها مكلفة جداً: لقد كان النضال ضد حزب اللات أسهل دائماً من النضال ضد إسرائيل المدججة بأسلحة أمريكا والغرب كله. ولقد كان النضال الأسهل دائماً أن يتهم دون كيشوت النزام وحلفاءه بمن فيهم حزب اللات بالعمالة لإسرائيل. وهكذا يغدو هو البطل النقي الذي يقاتل الكون كله، وعلى الأخص النزام الشرير ونظام الملالي الفارسي الرافض وأداته المسماة حزب اللات.

دون كيشوت الليبرالي الباحث عن الانتخابات على طريقة ليبيا والعراق ومناطق السلطة، وشقيقه الإخواني الباحث عن الخلافة كما تتجلى في طرابلس الغرب يعيشان فراغاً مهولاً. بداهة أن الأول يعاني الفراغ على نحو أشد، لأن دون كيشوت الدين السياسي لديه مشروع يتجاوز التاريخ فحواه أن خطة الله تتجلى اليوم في عباده على يد الخليفة المخلص رجب الطيب، مع أل التعريف، كما اعتاد تدليله عالم المسلمين القطري الراحل يوسف القرضاوي.

هل تباد غزة الآن تحت العدسات؟ هل يتم ابتلاع الضفة؟ هل يتم احتلال أجزاء أخرى من سوريا على يد إسرائيل وتركيا؟ هل تلقى أعداء إسرائيل ضربة قوية في سياق تداعيات السابع من تشرين؟ وهل يشكل سقوط النزام خسارة مؤقتة على الأقل للفريق الذي يواجه إسرائيل والاستعمار العالمي؟ نعم، نعم، نعم. ولكن إنجازاً هائلاً تحقق لدون كيشوت هو سقوط نزام الشر المطلق الذي يتعالى فوق مستوى الشر التاريخي المعروف.

ربما أن دون كيشوت يبحث الآن عن معارك أخرى بعيداً عن سوريا وفلسطين: ربما أنه يحلم باليوم الذي سيتحرر فيه لبنان من حزب اللات وإيران من حكم الملالي.

منذ قليل أيضاً شرع فيصل القاسم في تنبيه فريقه من مقاتلي الحرية والدين الصحيح إلى خطورة الحوثيين على الديمقراطية والإسلام، ولن تمضي أيام قليلة حتى يكتشف دون كيشوت الليبرالي معركته البطولية الجديدة ضد سجون عبد الملك الحوثي الوحشية، ويكتشف شقيقه دون كيشوت الإخواني أن الحوثيين يتكلمون بحق "ستنا عايشة وسيدنا معاوية" بما يصل إلى مستوى الكفر الصريح.

قال لي نثانيال الساذج القادم من فيلادلفيا بنسلفانيا:"حقاً؟ تتخذون المواقف السياسية الراهنة انطلاقاً من قصص عن زوجة النبي وخلافات الصلاة بأكف مسدلة أو مضمومة؟ هذه وحق يسوع حروب دون كيشوت في طبعة عربية ساحرة يجب ضمها إلى ألف ليلة وليلة.