الأحد  05 كانون الثاني 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وقف بث الجزيرة: قرار يثير التساؤلات الدستورية ويستوجب المساءلة| بقلم: عصام عابدين

2025-01-02 08:27:08 AM
وقف بث الجزيرة: قرار يثير التساؤلات الدستورية ويستوجب المساءلة| بقلم: عصام عابدين
المحامي الدكتور عصام عابدين، خبير في الشؤون القانونية والحقوقية

بتاريخ 1/1/ 2025، ومع بداية السنة الجديدة، نشرت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) خبراً مفاده الآتي "قررت اللجنة الوزارية المختصة المكونة من وزارات: الثقافة، والداخلية، والاتصالات، وقف بث وتجميد كافة أعمال فضائية الجزيرة ومكتبها في فلسطين، وتجميد عمل كافة الصحفيين والعاملين معها والطواقم والقنوات التابعة لها بشكل مؤقت، إلى حين تصويب وضعها القانوني، وذلك لمخالفة فضائية الجزيرة القوانين والأنظمة المعمول بها في فلسطين. وجاء هذا القرار إثر إصرار الجزيرة على بث مواد تحريضية وتقارير تتسم بالتضليل وإثارة الفتنة والعبث والتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية".

لا يحتاج الأمر إلى الكثير من العناء لإدراك أن هذا القرار يُشكل انتهاكاً مؤكداً لأحكام القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين، لا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يكفل حرية التعبير والحريات الإعلامية. كما أنه يتعارض بشكل واضح مع التعليق العام رقم (34) الصادر عن اللجنة المَعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (CCPR) التي تُتابع مدى امتثال الدول لأحكام هذا العهد الدولي واستحقاقاته. إلى جانب تعارضه مع المواقف الثابتة والمستقرة الواردة في تقارير المقررة الخاصة للأمم المتحدة المَعنية بالحق في حرية الرأي والتعبير، ومَن سبقها من مقرري الأمم المتحدة. ومع المواثيق الدولية ذات الصلة، وأبجديات قانون حقوق الإنسان.
ومهما كانت المبررات المطروحة لتبرير هذا القرار، فإنه يعكس انزلاق الحكومة الفلسطينية التدريجي نحو نفق مُظلم. فالحريات الإعلامية تُمثل العمود الفقري لحرية التعبير والمقياس الحقيقي للأداء الديمقراطي وحال الحقوق والحريات العامة. وإنْ شئت قُل، هي مرآة الحقوق والحريات العامة في المجتمعات المتحضرة.

هل اللجنة الوزارية المختصة مخولة باتخاذ قرار بوقف فضائية الجزيرة أو أي وسيلة إعلامية أخرى؟
الإجابة: لا. هذا القرار يُمثل اعتداءً سافراً على الدستور الفلسطيني. وفقاً للمادة (27) الفقرة (3) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل، الواردة في الباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات العامة، ينص الدستور بوضوح على أنه: "تحظر الرقابة على وسائل الإعلام، ولا يجوز إنذارها أو وقفها أو مصادرتها أو إلغاؤها أو فرض قيود عليها إلا وفقاً للقانون وبموجب حكم قضائي."
وبالتالي، فإن أيّ تقييد للحريات الإعلامية يتطلب تحقق "شرطين دستوريين" معاً: وجود نص قانوني، وصدور حكم قضائي فاصل في الدعوى. وهو ما يعكس حرص المُشرّع الدستوري الفلسطيني على ضمانات المحاكمة العادلة. وفي ظل غياب الشرط الدستوري الثاني (الحكم القضائي) لا جدوى من البحث في القوانين والأنظمة التي أشار إليها هذا القرار. وبناءً على ذلك، فإن قرار اللجنة الوزارية (السلطة التنفيذية) بوقف فضائية الجزيرة يُعد انتهاكاً صريحاً وغير دستوري، قولاً واحداً.

ما هو التكييف الدستوري للقرار الصادر عن اللجنة الوزارية بشأن وقف بث فضائية الجزيرة؟
الإجابة: نحن أمام جرائم دستورية. يُشكل القرار الصادر عن اللجنة الوزارية انتهاكاً للعديد من النصوص والأحكام الدستورية؛ وأبرزها المادة (27) من القانون الأساسي، التي تمنح وسائل الإعلام حماية دستورية قوية وفعّالة، حيث لا يكفي فيها أن يكون التقييد وارداً في القانون، على فرض وروده، وإنما يجب أن يقترن أيضاً بحكم قضائي (وفقاً للقانون "و" بموجب حكم قضائي).

كما يُشكل قرار اللجنة الوزارية انتهاكاً لأحكام المادة (19) من القانون الأساسي التي تحمي حرية التعبير، حيث تُعد الحريات الإعلامية جزءاً لا يتجزأ من حرية التعبير وفق المعايير الدولية. علاوة على ذلك، فإن القرار ينتهك المادة (14) من القانون الأساسي، التي تكفل ضمانات المحاكمة العادلة، حيث تم وقف بث وسيلة إعلامية دون إتاحة حق الدفاع عنها أمام القضاء ودون صدور حكم قضائي فاصل في الدعوى. وأخيراً، فإن القرار يُمثل انتهاكاً للمادة (6) من القانون الأساسي التي تؤكد أن "مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في فلسطين، وتخضع للقانون جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص."

إنَّ انتهاك الحقوق الدستورية المتعلقة بالحريات الإعلامية، وحرية التعبير، وضمانات المحاكمة العادلة، وسيادة القانون، يعني بوضوح أننا أمام "جرائم دستورية" موصوفة قد ارتُكبت. وهذا ما تؤكده المادة (32) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل، التي شددت على أن: " كل اعتداء على أي من الحريات الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للإنسان وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها القانون الأساسي أو القانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم، وتضمن السلطة الوطنية تعويضاً عادلاً لمن وقع عليه الضرر".

وحيث أنَّ الاعتداء قد وقع على حقوق مكفولة بموجب القانون الأساسي (الحريات الإعلامية، حرية التعبير، ضمانات المحاكمة العادلة، وسيادة القانون)، وجميعها تندرج تحت الباب الثاني من القانون الأساسي (الدستور)، فإننا بالفعل أمام جرائم دستورية لا تسقط بالتقادم، وتستوجب تعويضاً عادلاً من السلطة الفلسطينية لمن وقع عليه الضرر. وبذلك، قُضِيَ الأمر.

وماذا عن مضمون قرار اللجنة الوزارية بشأن التحريض والتضليل وإثارة الفتن والعبث وما شابة؟
الإجابة: هذا المضمون أضعفُ بكثير من أن يصمد في مواجهة الدستور الفلسطيني والمعايير الدولية. إضافة إلى كونه يُشكل انتهاكاً مؤكداً للقانون الأساسي الفلسطيني المعدل (جرائم دستورية لا تسقط بالتقادم وتستوجب تعويضاً عادلاً من السلطة الفلسطينية لمن وقع عليه الضرر) طبقاً لأحكام الدستور. وانتهاكاً للمادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشأن وجوب احترام حرية التعبير والحريات الإعلامية. ويتعارض مع التعليق العام رقم (34) على المادة (19) الصادر عن اللجنة المَعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بشأن حرية التعبير والحريات الإعلامية.

استخدام مصطلحات فضفاضة كـ"التحريض" و"التضليل" و "إثارة الفتن" و "العبث" و"التدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية" يؤدي إلى "فشل" هذا القرار في اجتياز المرحلة الأولى من الاختبار ثُلاثي الأجزاء (Three- Part Test) المطبق في المعايير الدولية لفحص أية قيود ترد على حرية التعبير والحريات الإعلامية، وغيرها من الحقوق والحريات العامة، عِلماً أنه ينبغي اجتياز المراحل الثلاث للاختبار.

الاختبار ثُلاثي الأجزاء يتطلب اجتياز ثلاث مراحل مُتتالية "بنجاح" لإقرار مشروعية أيّ قيد يُفرض على حرية التعبير والحريات الإعلامية في المعايير الدولية. المستوى الأول من الاختبار يتناول "القانونية" ويشترط أن يكون القيد الوارد على حرية التعبير والحريات الإعلامية منصوصاً عليه في القانون بنص واضح وصريح ولا يستخدم مصطلحات فضفاضة ولا يُفرّغ الحق من مضمونه بحيث يُمكن لوسيلة الإعلام الذي استهدفها هذا القيد الحُكم على تصرفاتها من خلاله. وحيث أن قرار اللجنة الوزارية قد استخدم مصطلحات فضفاضة فإنه يفشل في المستوى الأول من الاختبار. وبذلك ينتهك المعايير الدولية، ولا حاجة هنا لاستكمال المستوى الثاني، والمستوى الثالث، من الاختبار. مما يؤكد انتهاك قرار اللجنة للدستور الفلسطيني والمعايير الدولية.

والمستوى الثاني من الاختبار يتناول "الضرورة" ويتعلق بمشروعية الغرض من القيد وعلى قاعدة أنه إذا كان هناك إمكانية لتوفير الحماية بطرق أخرى لا تحد من حرية التعبير والحريات الإعلامية فلا يُصار إلى إعمال هذا القيد (أي يفشل في المستوى الثاني للاختبار) ونكون أمام انتهاك لحرية التعبير والحريات الإعلامية حال فرض هذا القيد. وحيث أن المنبر الإعلامي (الجزيرة الفضائية) مفتوح أمام السلطة الفلسطينية للتعبير عن وجهة نظرها فإنَّ القرار يفشل أيضاً في اجتياز المستوى الثاني للاختبار.

والمستوى الثالث من الاختبار يتناول "التناسب" أي أن يكون القيد أقل الوسائل تدخلاً في حرية التعبير والحريات الإعلامية مقارنة بغيره، وحيث أنه بإمكان السلطة الفلسطينية التواصل مع فضائية الجزيرة لطلب أية توضيحات وبإمكانها أيضاً الظهور على القناة والتعبير عن وجهة نظرها، وحيث أنه من الثابت أنها مارست هذا الحق فعلياً وأعُطيت المساحة الإعلامية للتعبير عن وجهة النظر المقابلة، فإنَّ قرار اللجنة الوزارية يفشل أيضاً في اجتياز المستوى الثالث من الاختبار في المعايير الدولية. وبذلك نكون أمام انتهاك للاتفاقيات والمعايير الدولية بشأن حرية التعبير والحريات الإعلامية علاوة على انتهاك الدستور الفلسطيني.

يُمكن للسلطة الفلسطينية الاطلاع على المزيد من التفاصيل بشأن الاختبار ثُلاثي الأجزاء (الفحص الصارم) بشأن حرية التعبير والحريات الإعلامية من خلال الرجوع إلى المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه في 2 نيسان/ أبريل 2014 بدون تحفظات، والتعليق العام (34) على المادة (19) الصادر عن اللجنة المَعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. والاطلاع أيضاً على تفاصيل الاختبار ثلاثي الأجزاء في مبادئ جوهانسبرغ بشأن الأمن القومي وحرية التعبير والوصول إلى المعلومات (Johannesburg Principles) ومبادئ سيراكوزا بشأن تقييد الأحكام في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ((Siracusa Principles ومبادئ تشواني بشأن الأمن القومي وحق الوصول إلى المعلومات (Tshwane Principles). تُقدّم هذه المبادئ الدولية، وشروحاتها، إطاراً كاملاً لفهم الاختبار ثُلاثي الأجزاء المعتمد دولياً بشأن حرية التعبير والحريات الإعلامية. وكذلك الأحكام الصادرة عن القضاء الدولي، وشروحات قانون حقوق الإنسان.

وأخيراً، ماذا عن سجل السلطة الفلسطينية بشأن الحقوق والحريات بعد الانضمام للاتفاقيات الدولية؟
الإجابة: مُقلق للغاية. بالرجوع إلى "الملاحظات الختامية" الصادرة عن اللجنة المَعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي تُراقب مدى الامتثال لأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه فلسطين (وثيقة رقم CCPR/C/PSE/CO/1) المنشورة على الموقع الرسمي لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 24 آب/ أغسطس 2023 فقد أشارت اللجنة الدولية في البند رقم (7) من الملاحظات الختامية الموجهة إلى السلطة الفلسطينية، الوارد تحت تدابير مكافحة الفساد، إلى ما يلي "يُساور اللجنة القلق إزاء التقارير التي تُفيد بأن الفساد، بما يشمل المحسوبية، لا يزال مُتفشياً في العديد من قطاعات الحياة العامة، لا سيما عند تعيين المسؤولين الحكوميين وأعضاء السلطة القضائية وترقيتهم ..".

وأوصت اللجنة السلطة الفلسطينية في البند رقم ( [8] فقرة (أ) بوجوب "التحقيق السريع والشامل والمستقل والنزية في جميع حالات الفساد وملاحقة مرتكبيها، لا سيما حالات الفساد التي يتورط فيها كبار الموظفين العموميين، وتطبيق عقوبات تتناسب مع خطورتها".

وفيما يخص ضمانات المحاكمة العادلة، أشارت اللجنة الدولية في البند (35) من ملاحظاتها الختامية الموجهة للسلطة الفلسطينية إلى ما يلي "يُساور اللجنة القلق إزاء التقارير التي تُفيد باستمرار انعدام الاستقلالية والحياد في النيابة العامة والسلطة القضائية في الدولة الطرف. وتُعرب عن قلقها بوجه خاص إزاء انعدام الشفافية في إجراءات اختيار وتعيين المدعين العامين والقضاة، بمن فيهم رئيس المحكمة العليا ورئيس المحكمة الدستورية العليا.

ويُساور اللجنة الدولية القلق أيضاً إزاء قرار السلطة التنفيذية إنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية ومراقبتها له، وهو ما يعيق بدرجة كبيرة استقلال النظام القضائي، كما يساورها القلق إزاء الادعاءات المتعلقة بعمليات اعتقال وإجراء محاكمات مدفوعة بأغراض سياسية وانتهاكات لضمانات المحاكمة العادلة". وشددت على وجوب القيام بالعديد من الإجراءات التي تطال مؤسسات العدالة وضمانات المحاكمة العادلة.

وفيما يخص حرية التعبير والحريات الإعلامية، أعربت اللجنة الدولية في البند (39) عن "قلقها البالغ" إزاء استخدام أحكام قانونية بشأن "إهانة موظف عمومي" و "إثارة النعرات الطائفية" و "ذم موظف حكومي" و "إهانة سلطة عليا" كأساس للتخويف والاعتداءات وعمليات الاعتقال التعسفي والاحتجاز المطوّل للصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان بمن فيهم المبلغون عن الفساد ومنتقدو الحكومة.

وشدد اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (CCPR) في ملاحظاتها الختامية على ضرورة أن تُضاعف السلطة الفلسطينية من جهودها لمنع الموظفين العموميين من التدخل في الممارسات المشروعة للصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، بمن فيهم المبلغون عن الفساد، ومُنتقدو الحكومة، بما في ذلك حقهم في حرية التعبير. وأكدت على أهمية تعزيز حماية الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان من أي تهديد أو ضغط أو ترهيب أو اعتداء، وعلى وجوب ضمان التحقيق السريع والفعّال والنزية في جميع الانتهاكات، وملاحقة المسؤولين عنها، وجبر الضرر بشكل كامل.

ختاماً، نقول إنَّ الحقوق والحريات ليست مُجرد كلمات تُزيّن الدساتير، بل هي روح العدالة وركيزة الكرامة الإنسانية. وحين تُكمم الأفواه وتُقمع الحريات، يفقد المجتمع ضوءه الأخلاقي، ويغرق في ظلام الانتهاكات. وفي ظل استعمار واضطهاد ينهشان أرضنا وكرامتنا، يبقى صوت الحق عصيّاً على الكسر، نابضاً بالأمل في إرادة الشعوب الحيّة. واهمٌ مَن يظن أن المستقبل يُصنع بالقمع والاضطهاد، لأنه يُبنى على حرية تُعانق العدل، وعدالة تُنصف الجميع دون خوف أو تمييز. فلسطين اليوم تقف شاهدة على معركة الحرية والكرامة، في مواجهة قمع لا بد أن ينهزم أمام إرادة الحياة وتقرير المصير.