لا سبيل لحل الأزمة المستعصية في مخيم جنين إلا من خلال تفعيل اوسع إطار وطني مؤسساتي يستهدف بلورة مبادرة وطنية مبدئية يلتزم بها الجميع على أوسع نطاق، ويتم بموجبها الوقف الفوري لإطلاق النار والاحتكام للتحاور المباشر على قاعدة الإقرار الواضح والإلزام العملي من قبل كافة الأطراف بمسؤولية السلطة الوطنية الفلسطينية وسيادتها القانونية والامنية والإدارية على المخيم وعلى كافة الاراضي الفلسطينية المتاحة.
هذا هو المنطلق وهذا هو الأساس المطلوب والممكن والذي على قاعدته يمكن تجاوز المأزق الخطر الذي يعيشه مخيم جنين وانعكاساته المحتملة على عموم الساحة الفلسطينية بما في ذلك تدهور الأمور نحو مهالك لا تُحمد عاقبتها.
لقد لعبت المخيمات الفلسطينية، إلى جانب العديد من القرى والمدن في كافة المناطق المحتلة، دوراً ريادياً في مسيرة الكفاح الوطني في مختلف المراحل والظروف. وكان مخيم جنين ولا يزال الحصن الحصين للنضال الوطني، والشوكة الصلبة في حلق الاحتلال. ولا شك بأن هناك اجماع وطني على أهمية الدور الذي لعبته المخيمات، وبالأخص مخيم جنين، في معارك التصدي للاحتلال ومخططاته على امتداد الوطن في الضفة وقطاع غزة.
وفي هذه المرحلة، حيث تتواصل حرب الإبادة الاجرامية ضد شعبنا الصابر في قطاع غزة ويستمر نزيف دماء أبنائه الطاهرة وتتزايد معاناته بدعم وتغطية من قبل الادارة الامريكية ؛ وفي الوقت الذي تعصف فيه العديد من التغيرات الاستراتيجية العميقة والتي تشمل منطقة الشرق الأوسط كلها بما فيها ما حدث ويحدث في لبنان وسوريا ؛ وما يجري من تحركات تسعى من خلالها مختلف القوى الاقليمية والدولية رسم خارطة المنطقة بما يخدم أهدافها ومصالحها الخاصة، فان المسؤولية الوطنية تتطلب منا ابداء أكبر قدر من المسؤولية تجاه حماية المصلحة الوطنية العليا لشعبنا، والاستعداد لمواجهة التحديات المقبلة والتي تقع في مقدمتها مخططات شطب وانهاء القضية الفلسطينية.
إن الإنهاء العاجل لأزمة مخيم جنين أمر على درجة عالية الأهمية، ومن شأنه المساهمة في إحباط مخططات الاحتلال الاسرائيلي واليمين الصهيوني المتطرف الرامية لنشر الفوضى في عموم المناطق المحتلة ولإظهار السلطة الفلسطينية كحالة عاجزة ومفككة وغير مؤهلة لاستلام مسؤوليتها الوطنية تجاه شعبها بما في ذلك في قطاع غزة؛ والتمهيد لفصل القطاع عن الضفة الغربية والقدس؛ وحسم الصراع من خلال ضم الضفة الغربية وإعلان حل السلطة وتوسيع الاستيطان والقضاء على أية فرصة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية؛ وشطب منظمة التحرير وتصفية القضية الوطنية الفلسطينية
الآن، وأكثر من أي وقت مضى، مطلوب تدارك الأمور وتوحيد الصفوف كي لا يتم تغييب قضيتنا وتجاوز حقوقنا وإضاعة والتضحيات التي بذل شعبنا الفلسطيني الغالي والنفيس من أجل تحقيقها على امتداد العقود الماضية. ان حماية مستقبلنا الوطني يستدعي التقيُّد بوحدة الصف الوطني الفلسطيني وبمبدأ حق السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية في تمثيل الشعب الفلسطيني وحماية مصالحه الوطنية العليا من خلال تعزيز قدرتها على ممارستها مسؤولياتها العامة وفرض سيادتها على المناطق المتاحة وفق الاتفاقات الموقعة وقرارات الشرعية الدولية التي أكدت الحقوق الوطنية المشروعة المستحقة للشعب الفلسطيني. وأما غير ذلك فإن من شأنه إلحاق أفدح الضرر بالقضية الوطنية وبالدور التمثيلي الوطني والسياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ولا شك بان اي تراخي أو تردد من قبل الأطراف الوطنية في تدعيم سيادة السلطة الفلسطينية على كافة المناطق الفلسطينية التي أتاحتها لها الاتفاقات التي التزمت بها وقعت عليها منظمة التحرير يعني القبول بتفكك السلطة الفلسطينية والاستسلام لحالة من الفلتان ليس فقط في مخيم جنين ولكن أيضاً في كافة مناطق السلطة، وتعميم حالة من الفوضى يكون فيها لكل حارة ميليشيتها الحاكمة.
وبالتأكيد فإن الحل الأمني الذي يقوم على الحسم العسكري ليس هو السبيل الصحيح والأسلم والأكثر حكمة لمعالجة المشكلة، وخصوصاً إذا ما التزمت كافة الأطراف بالمصلحة الوطنية العليا وغلّبت انحيازها للقضية الوطنية على حساباتها الفصائلية الضيقة ، واقتنعت ان انهاء هذا الوضع الخطر لا يمكن ان يتحقق بدون الإقرار بان السلطة الشرعية هي وحدها التي يحق لها ممارسة الهيمنة على الأرض وعلى المكان وفرض السيادة عليها؛ وان السيادة الوحيدة المستحقة هي للسلطة الوطنية الشرعية صاحبة الصلاحية والولاية في فرض سيادة القانون وتوفير الحماية لكافة أطياف المجتمع.
ان قيام سلطات الاحتلال الاسرائيلي باستباحة ولاية السلطة وسيادتها، بما يناقض الاتفاقيات والالتزامات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية واستمرار عمليات الاقتحام والتدمير لمناطق السلطة الفلسطينية وإجرائها لحملات الاعتقال والتدمير والقتل لا يجب ان يستغل من قبل اية مجموعة فلسطينية كمبرر لإشاعة وتعميم حالة الفلتان الامني والقانوني، لان ذلك لا يؤدي إلا إلى انتشار الفوضى ولن يقود سوى إلى انهيار النظام والاستقرار المجتمعي. ان ذلك يتطلب من كافة الأطراف الاحتكام للقانون والنظام في كل المناطق التي تقع ضمن الصلاحيات القانونية للسلطة الفلسطينية.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل يمس هذا المنطلق المبدئي بحق الفصائل والأفراد في مقاومة الاحتلال. الجواب بالتأكيد لا. مقاومة المحتل حق وواجب يكفله القانون ومبادئ حقوق الانسان، وهو حق متاح لكل ابناء الوطن ولكافّة قواه الوطنية. فطالما هناك احتلال ستكون هناك مقاومة. ولكن اغلاق مناطق وإعلانها محرمة على السلطة وفرض السيطرة على المكان لا يمكن اعتباره عملية مقاومة. بل هو أقرب للتمرد والفوضى.
إن أية وساطات أو مبادرات لا تضع هذا الاستحقاق الواضح على رأس أهداف تحركها لن تقود سوى الى تعميق وإطالة الأزمة بكل ما يمكن ان ينجم عن ذلك من تبعات ودماء. فلا جدوى من الطروحات والمبادرات الشكلية التي تتظاهر بالتوازن المصطنع وإمساك العصى من المنتصف من خلال الحديث عن الندّية وعن "طرفي المشكلة"، كأن الصراع يجري بين ندّين متناظرين على ذات السوية، كالإشارة الى حق السلطة في تطبيق القانون بموازاة حق بعض الأفراد أو المجموعات في الخروج على القانون وفرض الهيمنة والسيادة داخل المخيم تحت شعار الحق في المقاومة. ان الموقف الوطني المسؤول الذي يضع في المقدمة مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات يتطلب من كافة القوى الإصرار على إنهاء ظاهرة الفلتان الامني والاستعراضات العسكرية والمسيرات المسلحة للملثمين في شوارع المخيم وظاهرة اطلاق الرصاص في الهواء بلا هدف سوى إثبات الحضور وعرض القوة وفرض الهيمنة على المكان وعلى الجمهور؛ ما يستوجب تمكين قوات الأمن من ممارسة حقها الشرعي في حفظ الأمن وتوفير الأمان والنظام للجمهور.
ان المسؤولية الوطنية تتطلب من كافة الأطراف التحلي بأقصى درجات الحكمة والحرص على الوحدة الوطنية والتوصل إلى حلول مبدئية تقوم نزع فتيل الأزمة وإعادة الأجواء التصالحية، وانهاء معاناة الناس في المخيم ووضع حد لما يلحق بهم من أذى وأضرار. ان ذلك يقتضي من كافة أصحاب المبادرات والوساطات التي تسعى للمساهمة في حل هذه الأزمة الخطرة، العمل باتجاه الحل الذي يقوم على الوقف الفوري لهذا الصدام المدمر وإلزام كافة الأطراف بضرورة التقيّد العملي بمبدأ سيادة السلطة الوطنية الفلسطينية على المخيم وتمكينها من ضبط الوضع فيه وفي كافة مناطق السلطة الفلسطينية في المدن والقرى والمخيمات.