لست أزعم أنني كنت أعرف أن ترامب كان سيفوز بهذا الشكل الساحق. يبدو أن الرجل الشعبوي المعتوه قد عاد على نحو مذهل: ربح مجلس الشيوخ ومجلس النواب وحقق الأغلبية في المجمع الانتخابي كما حقق أغلبية شعبية لا نقاش فيها. لقد ربح كل شيء على الإطلاق.
بالطبع ليس هناك من حاجة لذرف الدموع على كامالا هاريس وحزبها الديمقراطي، إذ ليس هناك من فارق مهم بين الحزبين. لكن إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يحتاج إلى بعض التأمل، لأنه يكشف انحطاط الديمقراطية الليبرالية إلى حضيض لا سابق له في تاريخها الممتد منذ ثلاثة قرون. فقد تم انتخاب رجل كذاب مضطرب اللغة والمنطق يقول الأشياء المتناقضة في كل لحظة، عرفه الناس بفضائحه الجنسية والسياسية وقضايا الفساد وشراء الصمت على نطاق واسع، لكنه يعود "كأن شيئاً لم يكن". لماذا؟
وقف المفكر الاجتماعي/السيكولوجي المهم وليام رايش قبل قرن تقريباً ليتساءل"كيف فاز هتلر؟" وقد اقترح رايش أن الجماهير الألمانية اختارت النازية البشعة وهتلر المجنون عن طيب خاطر. وذلك ما استدعى قوله إن الماركسية لا تفهم الجماهير، وأن هناك حاجة ماسة إلى علم اجتماع سياسي/سيكولوجي ماركسي لفهم الجماهير لأن الأدبيات الماركسية التقليدية فشلت فشلاً ذريعاً في فهم آلية عمل العقل الجمعي الجماهيري وما يؤثر فيه ويوجه حراكه. ما زلنا نعيش لحظة 1933 ولغز صعود النازية. لماذا تنتخب الجماهير الأمريكية رجلاً معتوهاً معروفاً لديها تماماً؟
تنجح النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة نجاحاً تاماً في فرض حالة من عدم التفكير وانتشار عقلية القطيع على مستوى البلاد بشكل لا يشبهه شيء في العالم. ويصعب علينا أن نتخيل أن هناك وضعاً في العالم يفتقر فيه البشر إلى التفكير في السياسة مثلما هو الحال في الولايات المتحدة، إذ يتحرك الناس كما يفعل القطيع دون أن يفكروا فيما يفعلون متعلقين بظواهر الأمور وبعض الأمور الشكلية التي تعتمد أساساً على حضور المرشح والكاريزما اللغوية وحركات الجسد التي يتمتع بها. ويعود جزء من هذا إلى أن محتوى الخطاب السياسي لم يكن مهماً في تاريخ الانتخابات الأمريكية مطلقاً. بالطبع علينا أن نتذكر أن الفروق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي لا تكاد تذكر، وهو ما يعني أن الفكر أو البرنامج السياسي..الخ لا يمكن أن يكون سبباً لاختيار هذا المرشح أو الحزب في المقام الأول. ما يحسم الأمور إذن هو شخص الرئيس في معظم الأحوال، وهو ما يجعل معيار الجاذبية والقوة وإيقاع الصوت والجسد ..الخ هو كل شيء تقريباً، لذلك كان أشخاص مثل كلينتون وجورج بوش الابن رؤساء بشعبية ساحقة في مقابل رؤساء بجاذبية محدودة مثل جيمي كارتر أو جيرالد فورد.
ولكن ترامب مهرج سخيف، وليس جذاباً مثل كلينتون، بل إنه أسوأ من ريغان الذي كان ينام في الاجتماعات. على الرغم من ذلك نجح بعروضه الغبية في الوصول إلى قلوب الملايين، وهو مؤشر حاسم على تردي مستوى الذكاء والثقافة والذائقة لدى الجماهير الأمريكية البسيطة عموماً والتي لا تهتم بالشؤون العامة على وجه الإجمال.
بالنسبة للسياسة فإن اللوحة تظل كما هي دائماً: كل رئيس أمريكي جديد يتفوق على سابقه في عدائه للعرب وقضاياهم وحبه لإسرائيل ومساندته لمشاريعها وسياساتها التوسعية. أما عالمياً فقد نفذ الرؤساء جميعاً استراتيجية واحدة فحواها الحفاظ على هيمنة أمريكا وردع أية إمكانية لتجاوزها اقتصاديا أو سياسيا أو عسكرياً. وهكذا لا يمكن أن تأتي الانتخابات الأمريكية جوهرياً بأي جديد. كما أن اللعبة السياسية الأمريكية القائمة على تداول السلطة بين حزبين متشابهين على نحو يعسر فيه التمييز بينهما لا تسمح بأية فرصة للتغيير الناجم عن تغير الرؤساء.
ترامب إجمالاً تفوق في حبه لإسرائيل في دورته الرئاسية السابقة على الجميع. فقد شن حرباً مجنونة على كل ما هو عربي وإسلامي متوجاً عنصريته بقرارات مريعة لم يسبقه إليها أحد من عشاق إسرائيل من قبيل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتخلي عن وهم حل الدولتين علنا، وإطلاق يد إسرائيل لتستوطن كما تشاء، وصولا إلى ضم الضفة كلها. إذن فيما يخص ما كنا نتعارف عليه بقضية العرب المركزية "فلسطين"، يعد موقف ترامب الأسوأ في التاريخ الأمريكي كله. لكن علينا أن نكون يقظين عندما نطلق مثل هذه الأحكام، لأن كل رئيس أمريكي جديد أسوأ من سلفه بحكم عوامل صيروة السياسة والتاريخ في العالم كله والمنطقة العربية خصوصاً.
ويبدو أن اتجاه الصيرورة المشار إليها منذ قليل يتقدم نحو المزيد من الإمبريالية العنيفة والمزيد من نهب الشعوب وابتزازها المالي الصريح في ظل تراجع قدرة الاقتصاد الأمريكي على المنافسة "العادلة" في مواجهة الصين وغيرها. لذلك لا بد من اللجوء إلى الابتزاز المستند إلى القوة. وقد قدم ترامب نموذجاً لذلك بتهديده الطفولي أو البلطجي بأن "نار جهنم" ستصب على رأس حماس إذا لم تقم بإعادة الأسرى قبل توليه السلطة.
على الرغم من ذلك علينا أن لا "نتطير" كثيراً من عودة ترامب. وقد لاحظنا مقدار الوحشية التي مارسها بايدن ضد غزة. وفي رأينا المستند إلى تاريخ أمريكا منذ 1945 حتى الآن على أقل تعديل، لا يجوز أن نتوقع من تغير الرئيس الأمريكي خيراً عميماً ولا شراً مستطيراً. لأن الأساسيات والجوهريات تظل هي هي مهما تغير الرؤساء ومهما كانت الفروق بينهم كبيرة. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو أن السياسة الأمريكية لم تتغير أبدا في ظل الرئيس الأسود الوحيد صاحب اللسان الساحر وخريج هارفاد المتفوق، بل إن كل شيء تقريباً بقي في عهد أوباما كما كان أيام سلفه الجاهل الأحمق جورج بوش الابن.
لذلك يظل المشروع المقاوم المرجو في الأحوال كلها هو توسيع الاصطفاف عالمياً في وجه مشروع الأمركة وتنسيق الجهود الإقليمية والكونية في الحد الأدنى مما قد يؤدي إلى انكفاء الوحش الأمريكي المنفلت من كل الضوابط على نفسه. وأما الركون إلى مهادنة ترامب باعتباره وحشاً مجنوناً لا يمكن ضبطه فسوف يقود فيما نحسب إلى توسيع أطماعه ورغبته في الافتراس خصوصاً بعد سقوط الدولة السورية الذي فتح شهية ترامب ونتانياهو على السواء. للأسف ينطبق ذلك كله على الفلسطينيين المنقسمين بين فريق يقاوم، وفريق يريد أن يقدم أوراق اعتماده لترامب لعله يبقيه والياً لبضع سنين أخرى.