الإثنين  20 كانون الثاني 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غزة: الكارثة والبطولة| بقلم: جمال زقوت

2025-01-20 04:57:57 PM
غزة: الكارثة والبطولة| بقلم: جمال زقوت
جمال زقوت

بتلقائية تنبض بحس إنساني يفيض على اتساع الكون، انطلق الغزيون والغزيات يهنؤون بعضهم بالنجاة من إبادة استهدفت على مدار 471 يوماً حياتهم بوحشية لم يشهدها التاريخ المعاصر.اختلطت فيها الدموع بين مشاعر الفرحة بالنجاة مع دموع الحزن على فاجعتهم بفقدان أحبتهم، وربما بشعورهم الدفين بالخذلان، بما في ذلك من بعض أبناء جلدتهم .

لقد انهمرت دموعهم على ركام كل مظاهر حياتهم التي شيدوها بحبات عرقهم على مدى تاريخ مدنهم وبلداتهم ومخيماتهم، التي لم يتمكن منها الغزاة يوماً. غزة التي تجرعت الموت والدمار لا تعرف الهزيمة، فهي مفردة خارج قاموس نشأتها منذ الأزل.أبناؤها وبناتها كبروا بين سوافي الرمل الذهبي ومياه البحر المتموج بزرقته اللافتة يمتلؤون بحب الحياة الصادقة، وإن اتسمت بخشونة البحارة وهم يصارعون من أجل لقمة عيش نظيفة مغمسة بعرقهم وكرامة أجدادهم . لقد صدقت رؤية محمود درويش في قصيدته صمت من أجل غزة و كأنه يعيش اليوم في أزقتها و حواريها المدمرة:

"ليست غزة أجمل المدن..
ليس شاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية
وليس برتقالها أجمل برتقال على حوض البحر الأبيض.
وليست غزة أغنى المدن.. وليست أرقى المدن وليست أكبر المدن. ولكنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحاً في عيون الأعداء، وفقرا وبؤساً وشراسة.

لأنها أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب."

…"ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم ‎وحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟ ‎سنحطم كل مرايانا ونبكي لو كانت فينا كرامة أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسنا ‎ونظلم غزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجيء إلينا، غزة لا تحررنا".

لقد حاول الفاشيون وهم يغرزون أنيابهم العنصرية في بطنها أن يُحملوا أهلها المسؤولية عن طعم لحمها المر، فانزلق البعض في أفخاخ روايتهم. إلا أن شموخ أهلها و جمال عيون أطفالها ودموع مآقي نسائها أعادت تصويب رواية التاريخ، لتنضبط شعوب الكون مرة أخرى إلى الجانب الصحيح منه. فمأساة غزة وكل فلسطين لم تبدأ منذ 471 يوماً من الكارثة والبطولة.

صحيح أن غزة دفعت أثماناً باهظة تفوق قدرتها، بفعل فائض غطرسة القوة المسنودة بأدوات القتل في عدوان انتقامي لكسر مكانتها كرافعة تاريخيّة للكرامة الوطنية، ولكنها تعرف كيف تجعل دماء وأشلاء أحبائها شوكة في حلق أعدائها.

 غزة التي دفعت ثمن الانقسام، وأثماناً باهظة لتركها وحيدة تواجه إبادة الفاشية الصهيونية، لا تحتمل أن تظل غارقة في دمار ركام بيوت أهلها. كما أنها لا تحتمل أن تظل ضحية لعبثية التجاذبات على مستقبل قدرتها في تحويل صمودها الغريزي، وهذه الأثمان الباهظة التي دفعتها لاستعادة مكانتها في تَجدُّد الهوية والرواية والمستقبل الوطني على طريق الحرية والعودة وانتزاع حق شعبنا في تقرير مصيره.

لقد وضعت غزة مجدداً الحركة الوطنية وبقايا النظام السياسي بكل مكوناته أمام فرصة ذهبية لنهوض عارم، وإن كان مليئاً بالألم وأشواك تيه الطريق. فولادة الأمل من رحم سنوات الانقسام العجاف و فاشية الاحتلال العنصري يفرض على الجميع الانصياع لصوت من قدموا أرواحهم كي لا تنكسر غزة .فانكسارها لم يكن ليجلب سوى الضياع والهزيمة أمام عنصرية المشروع الصهيوني وأطماعه التوسعية، سيما فيما يخطط من ضم للضفة الغربية وفي مقدمتها القدس التي يسعى الاحتلال لاستكمال ابتلاعها، وتصفية القضية الفلسطينية برمتها .

غزة تناشد الجميع بأن لا وقت للمناكفات واستمرار الصراع على التمثيل، وشرعية ترميم ما أرادته اسرائيل من ركام تُغرقنا جميعاً في وحله، كي تنفرد بمصير الأرض والهوية والقضية. لقد أجبر صمود الغزيين في مواجهة فاشية العدو جميع الأطراف للتوافق على كلمة سواء. فكان إعلان بكين لاستعادة الوحدة القادرة على إعادة فلسطين لجغرافية التاريخ. وهي، أي غزة لا تحتمل التلاعب بما كانت أثمانه دماءً غالية وآلاماً لا تحتمل .

فإذا كان من نصر يُمكن أن تحققه غزة لاستعادة مكانتها، فإنه يكمن فقط في انطلاق عجلة قطار مؤسسات الوطنية الجامعة. فلا شرعية خارج التوافق حتى نصل معاً إلى محطة شرعية الصندوق ندق بها أبواب الحرية و زوال الاحتلال.لا مكان لاستمرار التردد والحسابات الفئوية الضيقة، ولا مكان للإقصاء أو التفرد والهيمنة. هذا هو درس صمود غزة وتضحياتها الكبرى .

شكراً لغزة التي فاضت علينا بحبها، ومعها وبهذا الحب الملئ بالدم والدموع علينا مسؤولية كسر بلادة الساسة وحساباتهم الضيقة . بهذا نهزم عنصرية آخر احتلال في هذا العصر من التاريخ . فلسطين أكبر من الجميع وأبواب حريتها قاب قوسين أو أدنى .